لن يتكرر مشهد آخر سبت من شهر اب الماضي. تحرك الثلاثاء الذي يليه في وزارة البيئة دعم شكوك "الشبهة" حول من يحرك الاحتجاجات وما هو المطلوب منها.
عند اول احتجاج لمجموعة "طلعت ريحتكم" دار سجال بين مؤيدي التحرك وآخرين حذروا من تداعياته. في الحزب الواحد، في الطائفة نفسها او في الحي ذاته، وحتى في البيت الواحد بين الزوج والزوجة او بين الاخوة، اشتد النقاش حول أحقية الاحتجاجات.
تصرفات حكومية حول ملف النفايات وصفها المعارضون للتحرك بالغبية او المتآمرة. لماذا لم تعالج السلطة ازمة النفايات؟ هل يُعقل ان يصر المستفيدون من ملف النفايات على شروطهم؟ من استفاد اساسا طيلة السنوات الماضية من "الثروة المخفية"؟ المواطنون وصلوا الى درجة القرف جراء انتشار أكوام النفايات في الشوارع دون اي تحرك سريع فعلي للمعنيين الرسميين.
امتدت مساحة السخط على المسؤولين. استحضر المواطنون كل مشاكلهم من انقطاع التيار الكهربائي والمياه والفساد والمحاصصات وقلة العمل ومنافسة اليد العاملة الخارجية وغياب الرقابة والوساطات وازمة النظام ومشاكل اخرى تمتد المعاناة منها الى عقود مضت. لذلك اختصر احد المعارضين للتحرك شكوكه بسؤال: "ريحتهم طالعة من زمان، هلق شمّيتوها؟!"
لا شك ان المطالب محقة. لا اختلاف حولها. كل لبناني يعترف بذلك، لكن النقاش دار حول توقيت وطبيعة وخلفيات التحرك.
يقلق اللبنانيون عمليا من وجوه دأبت في السنوات الماضية على تقديم النظريات حول "الثورة" السورية مثلا، من ايام تظاهرات درعا وصولا الى غرق اطفال سوريين في البحر. هم انفسهم "المنظرون" تفرغوا للشعارات الفضفاضة. اللافت ان تلك الشعارات تتكرر في بيروت اليوم. يقلق اللبنانيون عندما يسمعون اتهام القوى الامنية "بالشبّيحة". هذا المصطلح المعلّب صُنع لزوم الازمة السورية. كذلك "سلميّة... سلميّة" او "الشعب يريد إسقاط النظام" او "ارحل... ارحل"... كلها شعارات تبناها منظرو التحرك في بيروت منذ ايام تحرك درعا السورية، ويكررونها الآن. فهل الهدف دفع لبنان الى ما حصل في سوريا؟
الشكوك تُطرح بعد تشريع الازمة في سوريا حتى وصل الإرهاب المتطرف اليها، وتشريع الازمة في لبنان الان، فهل هو فتح الباب امام التطرف كي يصل إلينا؟
لا يصدق المعارضون للتحرك الحديث عن براءة قياديي الاحتجاجات. هم يقولون انهم "مشبوهون". يستند معارضوهم الى تاريخ معظمهم وطبيعة مهامهم. في الساعات الماضية تم التداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي بأفكار وردت في كتاب "جين شارب" حول نظرية "الثورة الناعمة":
-اولا: لا قائد ظاهر او واضح.
-ثانياً: احتلال وزارات وسفارات.
-ثالثاً: رفض التعامل مع الدولة كدولة.
-رابعاً: التظاهر المستمر.
-خامساً: السلمية.
-سادساً: التغطية الإعلامية المستمرة ومدفوعة الأجر.
-سابعا: الاعتماد على الشباب الأصغر سنا بالحراك.
-ثامناً: الاعتماد على شخصيات داعمة ذات علاقات غربية ممتازة.
-تاسعاً: المطالبة بمطالب محقة للغاية ومؤيدة من قبل الشعب.
-عاشرا: التحركات تتم بشكل عشوائي ظاهرياً، لكنها منظمة داخلياً. كلها يجري تطبيقها حرفيا وبحرفية.
لا يصل النقاش بين الطرفين الى اتفاق بالطبع. لكن مواطنين أعادوا التموضع بعد الحديث عن تمويل خارجي للمحتجّين او الاستثمار السياسي الحاصل او شاهدوا التحرك في وزارة البيئة. استطاع المعارضون للتحرك ان يغلبوهم بسؤال: لماذا يصرّ المحتجون على شعار "كلهم يعني كلهم"؟ هل يعني هذا مساواة المسؤولين عن ملف النفايات والهدر المالي بآخرين غير مسؤولين عن تلك الملفات؟
ثم أتى السؤال: لماذا لا يحدد المحتجون عنوانا للتحرك؟ لماذا لا يطالبون مثلا بانتخابات مبكرة بعد وضع قانون انتخابات عادل ونسبي؟ لماذا هاجموا طاولة الحوار التي من المفترض انها ستسعى للحلول؟ هل بإعتقادهم انهم قادرون على الغاء الجميع والتفرد بقراراتهم؟ هل يتحمل لبنان؟ اساسا هل الشعب اللبناني معهم؟ حتى لو كانوا مئة الف متظاهر هل يختصرون الشعب؟ اين الديمقراطية بفرض نظرياتهم؟ ماذا لو نزل الى الشارع تحرك مضاد تحت عنوان: أولوية الاستقرار وفرض المطالب المحقّة بعيدا عن الفوضى؟
هناك من ذهب الى اتهام المتظاهرين بأنهم يفتحون الباب للفوضى ودخول التطرف و"داعش" الى لبنان. يستند هؤلاء الى ما حصل في سوريا. هكذا بدأت الازمة تحت عناوين مطلبية ثم تحولت سريعا الى ما هي عليه الآن.
اذا كان المطلوب تغيير النظام السياسي، فهل يتم ذلك الآن عن طريق ضرب الدولة؟
أسئلة عن الحراك "المشبوه" تدور، لكن ذلك لا يخفي "غباء" السلطة. هذا ما يقوله أنصار الحراك. يرددون القول "ان المسؤولين لم يشبعوا". لا حلول ولا انتخابات ولا اكتراث بمصالح الناس. الاكثر من ذلك ان المسؤولين يبتكرون اختراع الأزمات كما حصل مع مواقف السيارات على الكورنيش البحري في بيروت. هم يقدّمون للمحتجين اسبابًا منطقية "لثورتهم" على السلطة.
بين الرأي المشاكس والآخر المؤيد ثمة من ينهي النقاش بتأكيده ان حراكا غير طائفي لا يستطيع ان يحقق انقلاباً في لبنان. نظام الحكم معقّد في توزيع السلطة على الطوائف. لذلك لا امل بسقوط المعادلة القائمة، الا بإسقاط النظام الطائفي. هذا يبدو مستحيلا لان المحتجين عاجزون مشغولون بأمور تفصيلية لا تفرض تغيير المعادلات، لكنها تحدث "قلقلة" وفوضى. هنا يكون المواطن ضحية بكل الحالات. ان بقيت السلطة "غبية" فالناس ضحية، وان تقدم المشروع "المشبوه" فالناس ضحية. لا امل الا بتحرك الناس انفسهم. الطريق الأسلم والأفضل والأفعل هو بفرض قانون انتخابي عادل يقوم على النسبية وإجراء انتخابات نيابية ورئاسية لاختيار طبقة سياسية يريدها المواطنون وحتمية إلغاء الطائفية لحساب قيام الدولة المدنية. دون ذلك اتهامات وعمالة وفوضى وغوغائية وضرب الدولة. فمن له مصلحة؟