بلاء القوى الضعيفة، كبعض مجموعات الحراك الحالي ــــ يمينية كانت أم يسارية أو ما يعرف بالمجتمع المدني (على اساس ان بقية الناس من المجتمع العسكري) ــــ ان بعض الناشطين فيها، سواء من قيادات قديمة او جديدة، لا يهتمون لسماع النقد. وفي حالة الانقسام السياسي، لا يمكن حتى الاستماع الى رأي من طرف آخر، سواء كان قريباً او محايداً او حتى معادياً.
في حالة الحراك، يظهر، مجدداً، ان بعض الشبيبة لا يريدون التعامل بواقعية مع الامر. ربما انتشوا اكثر من اللزوم بلعبة الكاميرا والاضواء. وقللوا من الاهتمام بجمع المزيد من المواطنين. او هم يعتقدون فعلاً انه لا حاجة لاكثر من تأييد يأتي عبر مواقع التواصل الاجتماعي، او في بيانات صحافية. لكن ما يثير القلق، ان هذه المجموعات تتصرف مع المنتقدين لبرامجها وآليات عملها، على انهم خصوم لأصل الحراك. وهكذا، يكون من الصعب اختيار العبارات الانسب لقول ما يجب قوله. لكن، بين خيار التأييد المطلق، او الصمت، يمكننا القول، صراحة، ان حقنا في النقد والتشهير (بالفاسدين) هو ما لا يمكن لأحد ان يصادره، ولو نزل الى الشارع باسم الناس.
يقال ان تبسيط الامور يساعد على حل العقد فيها. وهذا تمرين بسيط مع ما يجري:
تقول مجموعات الحراك انها تريد علاجاً لمسائل مركزية مثل الكهرباء والمياه والصحة والنفايات، وتريد محاسبة المسؤولين عن الفساد. ويريد جزء كبير منها، الآن مثلاً، استقالة وزير البيئة محمد المشنوق. وهي، تقرّ، ولو من دون اعلان، انها اختارت هذا الهدف لانه الاسهل سياسياً واعلامياً. بمعنى ان الهجوم عليه لن يستنفر قواعد طائفية او مذهبية او سياسية او مناطقية، لأن الرجل لا يحظى بما يمكن أن يتوفر لوزير محسوب على القوى الكبيرة في البلاد. في هذه العناوين، المطلب المباشر المتعلق بحياة الناس، والمطلب السياسي باستقالة وزير يمثل جهة سياسية، والمطلب العام بمحاسبة المسؤولين عن الفساد.
في العنوان المطلبي، يعرف الناس جميعا، بما في ذلك الناشطون والمتظاهرون، ان السلطة القائمة اليوم، وموازين القوى التي تحكمها، تمنع انتاج حل علمي ليس فيه مكان للمحاصصة والفساد. وهي سلطة تعرف كيف يكون الحل العلمي والاخلاقي والقانوني.
في العنوان السياسي، يعرف الناس جميعا، بما في ذلك الناشطون والمتظاهرون، ان الوزير المطلوبة استقالته، يمثل نقطة توازن تحكم هذه الحكومة. والتضحية به تعني دعوة تمام سلام الى استقالة الحكومة كلها. والحقيقة الصادمة ان أمر الاستقالة ليس بيد سلام في اي حال من الاحوال.
في العنوان الذي يخص المحاسبة، نعرف جميعاً ان الحكومات التي تعاقبت على ادارة البلاد، منذ انطلاقة الشراكة الاميركية ــــ السعودية ــــ السورية، لم تخضع يوماً للمحاسبة، وان التغيير عندما حصل بعد عام 2005، لم يُزل احداً من الجيل القديم النافذ، بل اضاف من كان محروما من جنة السلطة الى مقاعدها.
وفي كل السنوات السابقة، نزل الى الشوارع مئات الالوف من اللبنانيين، لكن ايا منهم لم يقدر على تحريك الفاسدين قيد انملة عن كرسي الحكم والقرار. فما الذي سيدفعهم الان الى ذلك؟
مرة جديدة، الدعوة الى الواقعية لا تعني الرضوخ للوقائع القائمة. بل توجب النظر مليا الى الثغرات الواضحة التي يمكن النفاذ منها لفرض واقع يتيح تحقيق المطالب. وببساطة ايضاً، يمكن القول ان تغيير سلوك السلطة يحتاج الى من يجعل الحاكم يخشى شعبه لا العكس، وان وجود سلطة قضاء مستقلة، محمية بقوة عسكرية مهمتها حفظ تنفيذ القانون، هو احد ابرز السبل لتنمية قدرات هيئات الرقابة وتحصين الناس. وهذا لن يتحقق في ظل بقاء آليات انتاج السلطة كما هي عليه اليوم.
اليوم، كل الناس في حالة ضيق. والسلطة على وشك استنفاد آخر حيلها الطائفية والمذهبية وحتى الدموية. ولكن، بين ان تدفع بها نحو جنون لا يبقي على شيء، وبين ان تحاصرها وتدفعها الى تنازل وشراكة، يمكن اللجوء الى الخيار الثاني. وهذا يوجب، ببساطة ايضا، العمل على احداث تغيير عميق في تركيبة السلطة. وبحسب وقائع لبنان اليوم، هناك فرصة لتحقيق هذا الاختراق، من خلال حصول انتخابات نيابية وفق قانون النسبية، الذي لن ينهي وجود القوى الطائفية القابضة على روح البلاد والعباد، بل يتيح لقوة، ليست هي الابرز، لكنها حاضرة وفاعلة، داخل القطاع العام وخارجه، وتمارس لاطائفيتها يوميا، ان تحتل موقعا يمكن لمن يمثله ان يمارس حق الاعتراض والعرقلة والفيتو لكل الفساد القائم.
ثم هناك نقطة اخيرة، من المفيد تذكير «قصيري البال» من ناشطي الحراك بها، وهي انه في حال قلتم انكم لا تريدون تسييس التحرك، فهذا يعني انكم لا تقبلون من احد استغلالكم لتجيير الحراك صوب مصالحه. وهو امر يخص فريقي النزاع في البلاد. وحتى يكون موقفكم صادقاً وحقيقياً، عليكم ادانة من يقحم العنصر السياسي المباشر. وهو العنصر الذي يشتغل عليه «عملاء اميركا» بمحاولة تصوير المقاومة ركنا من اركان الفساد، وتحويل سلاح المقاومة الى «عقبة» امام ازالة الفساد. وبالتالي، نكون في المرحلة المقبلة امام حملة جديدة، عنوانها مأخوذ من بيانات كتلة «المستقبل» التي تعزف لحنا واحدا: انزعوا سلاح المقاومة!
اما الثورة المتلفزة، فلها حكاية اخرى!