لم يكن رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو مهتمًا كثيراً بالتظاهرات التي واجهته في بريطانيا المنددة بزيارته والمطالبة باعتقاله على خلفية ارتكابه جرائم بحق الفلسطينيين. وسبب انعدام قلقه من هذه الحركة في لندن يعود الى سببين: الاول انه يتمتع بحصانة رسمية كونه رئيس وزراء ولا يمكن بالتالي المسّ به، كما ان الشارع شهد ايضاً تظاهرة مضادة تؤيده، اما السبب الثاني فكان التركيز على منع اي توجّه اوروبي لمقاطعة البضائع الاسرائيلية، فاعتمد سياسة "الترغيب والترهيب".
اما الترغيب فكان عبر استمالة الاوروبيين بعد ان فشل في استمالة الاميركيين من الناحية السياسية. فأطلق نتانياهو "مسرحية المفاوضات" مع الفلسطينيين، حيث قال انه مستعد للقاء الرئيس الفلسطيني محمود عباس في اي مكان ودون شروط مسبقة، حتى في "رام الله". وواقع الحال انه يعلم تماماً ان هذا الامر مستحيل بسبب المواقف التي كان قد اطلقها سابقاً وشكلت الغاماً فعلية امام اي تقدم على هذا المسار.
في المقابل، كان الترغيب ايضاً في التلميح الى ان اسرائيل هي الحليف الاقرب الى الاوروبيين للتخلص من خطر "داعش" واخواتها في الارهاب، ومن الطبيعي ان تكون الساحة الاكثر خصوبة في هذا المجال الارض السورية. وما عرضه نتانياهو حاول تدعيمه بجملة صدرت عنه في لقاء مع صحافيين حين قال "ان قادة عرب سنّة يدعمون في الغرف المغلقة الاعتراف باسرائيل كدولة للشعب اليهودي، لكنهم ينتظرون ان تنضج عملية السلام لقول ذلك بشكل علني. الزعماء انفسهم الذين يؤيدون فكرة الدولة اليهودية لشعب إسرائيل، يعارضون وبشدة الاتفاق النووي الإيراني، لكنهم يخشون إعلان ذلك صراحة". وارفق نتانياهو كلامه هذا بالقول ان العرب واوروبا يخافون من التطرف السني والتطرف الشيعي وهما خطران يواجهان اسرائيل ايضاً.
لن يؤيد اي قائد من القادة العرب ما قاله رئيس الوزراء الاسرائيلي، وقد يكون الاخير يلعب على وتر حساس، ولكن من المؤكد ان بعض الدول العربية باتت ارضاً خصبة قابلة للبحث في امكان الاستعانة باسرائيل لمواجهة ما تعتبره هذه الدول "الخطر الايراني" الذي يقبع قبالتها، ويتربص بها.
ولعل ابلغ رد على هذه الدعوة الاسرائيلية ما قاله جنرال سعودي متقاعد يدعى انور عشقي لتلفزيون "آي 24" الذي يتخذ تل ابيب مقراً له، اذ اعتبر ان نتانياهو "رجل منطقي وقوي ويمكن ان يتم بحث عملية السلام معه، استناداً الى قوله انه يرغب في بحث ذلك مع المصدر اي السعودية".
ليس عشقي الناطق الرسمي باسم السعودية، ولكنه كان جنرالاً في الجيش السعودي، وقد تحول الى مؤيد للحوار مع نتانياهو، بسبب... ايران.
صحيح ان رئيس الوزراء الاسرائيلي خسر معركته السياسية ضد الجمهوريّة الاسلاميّة رغم انه حشد كل طاقته لاحراج الرئيس الاميركي في عقر داره، ولكنه فشل في ذلك وبات الاتفاق النووي على طريق التطبيق الفعلي والرسمي. من هنا، استعاض عن هذه الخسارة السياسية بالترويج في اوروبا انه رجل مقبول من قبل الجميع وبأن قادة عرباً يرون فيه "المنقذ" من "البعبع" الايراني، ويجب التعامل معه على هذا الاساس لما فيه مصلحة اوروبا وعملية السلام في المنطقة.
اما الترهيب الذي استعمله نتانياهو، فكان التلميح الى ان اوروبا قد تخسر امكان الحصول على التكنولوجيا الاسرائيلية لصالح دول اخرى ابرزها الهند والصين، اضافة الى التعاون الاستخباراتي بين اسرائيل واوروبا في ما خص الارهابيين، خصوصًا مع موجة النازحين الى اوروبا.
قرر نتانياهو على ما يبدو ان يلعب اوراقه جميعها، فكشف عن تقبّل عربي له ولو من دون ان يقدّم الادلة على ذلك، وعمل على الترويج لدولة يهودية رغم اعتراض عدد من الاسرائيليين عليها، ناهيك عن عدد كبير من الدول التي ترى في هذه الدولة عنصرية واضحة وتقويضًا لكل القرارات الدولية والحقوق التي ينادي بها الفلسطينيون في اكثر من محفل دولي، اضافة الى الاسرائيليين العرب.
قد يكون الاوروبيون اصحاب رؤية اعمق من العرب، وهم قلقون من توجه رئيس الوزراء الاسرائيلي الى اقامة دولة يهودية لما تشكله من خطر على المنطقة وعلى تعزيز التطرف الاسلامي الذي سيقابله ايضاً تطرف يهودي، فيما ستعاني اوروبا في الحالتين من تداعيات ما سينتج عن هذه الحالة، والحرب في سوريا خير دليل على ذلك.