يرتفع صليب المسيح، وسط غابة صلبان مغروسة في مشرق ذبيح، ليذكّرنا في لحظات الشدّة والألم أنّ القيامة حالّة، "فبالصليب قد أتى الفرح لكلّ العالم"، على الرغم من التبعثر والتمزّق والضيق. مسيح الله في أساسه مذبوح قبل كون العالم، ذبح، وانسكبت أوجاعه كلّها في كياننا البشريّ إلى أن علّق على الخشبة ومن ثمّ سطع قائمًا من بين الأموات. عيد رفع الصليب ليس للتذكير بالحدث التاريخيّ المؤسّس له، أي باكتشاف القدّيسة هيلانة(1) له ورفعها إياه، بل هو جمعة عظيمة تستعاد، جلجلة نمشي فيها، في ارتقاب أن يشملنا المسيح بقيامته.
شاعرة كبيرة هي ناديا تويني، قالت لأسقف جاء ليزورها خلال لحظاتها الأخيرة في مستشفى الجامعة الأميركيّة في بيروت، قل لمعلّمك بأن يرفع صليبه عنّي. صعب على الناس اقتبال فكرة الصليب، فكيف لو تخيّل الإنسان، مشهد رفع المسيح عليه، وقد عدّ قديمًا صليب العار، وكيف دقّت يداه ورجلاه بالمسامير. وثبت علميًّا أنّ السيد مات اختناقًا، بعدما طال في النزاع، لكنّه في موته ضمّ الكون إليه ضمن دائرة الصليب، وكأنّ تلك الدائرة أمست الكون الجديد المنبلج من جسد المسيح المديد عليه، ليوشّحه بالضياء لحظة القيامة. ولعلّنا وفي لحظة العيد الكريم هذا، نستذكر الآلام، ليس لأننا ديانة التمزّق والتفجّع. المسيحيّة ما نشأت إلا بالقيامة. ولكننا نستذكرها لأننا امتداد لذلك الاضطهاد الوحشيّ الذي مورس على المسيحيين في ساحات روما، فمزقتهم الوحوش أو تم شواؤهم. التظيمات التكفيريّة المضطهدة لمسيحيي العراق وسوريا، هم وثنيّو هذا العالم. في ذلك الزمان تحالف اليهود والرومان لقتل المسيح، وفي هذا الزمان استمرّت تلك المنظمات التكفيريّة بقتل المسيح بشعبه. قتل المسيح وإخفاؤه في قبر النسيان هو المبتغى ولذلك نحن نضطهد تحت نير صليب أو مجموعة صلبان غرست لتمزّقنا أو تهجّرنا فوق بحور التعب.
ليس غريبًا ما يحصل في عالمنا هذا، لقد قال السيد ستكونون في ضيق، ستضطهدون من أجل اسمي، سيأتي أنبياء كذبة، ستقوم أمّة على أمّة ومملكة على مملكة... لم يتوقف مسار الموت ولم يتجمّد مسيل الدماء. ما يعني المسيحيين أنّ الأوجاع مستمرّة في مشرقهم.
صليب المسيح ما زال قائمًا في ذهن اليهود، لا يحملونه كما نحمله ونرفعه خشبة خلاص وارتقاء نحو ملكوت السماوات، بل يحملونه كصليب للعار والعقاب، يدخلون به الأمم والمنظمات، ويقولون نحن نرفض بقاء أمّة المسيح لأنّها أمة قامت على القيامة، ولأنّ المسيح رقد في ثقافات الشعوب في توقها إلى التحرّر، وبات رمزًا لكلّ نضال وجهاد في سبيل الترقي والإصلاح وإرساء الديمقراطيات وبخاصّة في العالم العربيّ، المسيحية بمسيحها جوهر كل حريّة تتوق إليها كلّ أمة وكل شعب وبلد ووطن، المسيح بحدّ ذاته خبز الفقراء وقوت الجائعين، هو مدى للثورات الملامسة لجراح الإنسان حتى ينبعث جديدًا.
ليس من بون ما بين التاريخ القديم وما يحياه مسيحيو هذه الديار. ما تريده إسرائيل شرق بلا مسيحيين. غير أنّ السؤال المطروح بالعمق، هل نسعى بتقديم الشرق على طبق من ذهب؟ ليست القوى التكفيرية منبثقة من ذاتها، إنها وليدة تلك الرؤية المستوردة، أتت من صلبها، اقنع الغرب بها في مراحل سابقة لدخول الأميركيين العراق سنة 2003. والّذي كان المقدّمة الفعليّة لتنفيذ مؤامرة الانقضاض على المسيحيين. النابع من حالة عقيديّة لاهوتيّة وعدائيّة، وقد أسّست تلك الحالة لحروب مذهبيّة بين الشيعة والسنّة، وكانت المنطلق الأساسيّ بتحريف الإسلام عن جوهره، وبالتالي، أخذه إلى سياق رافض للمسيحيين والأزيديين. لذلك إنّ الحلول لا تدرك في مؤتمرات تعدّ للترف الفكريّ والسياسيّ، وتصير الوعاء الحقيقيّ والستر تحتجب فيه الرؤية الأميركية الكاملة للمنطقة. في السابق وقف الأميركيون متفرّجين على مأساة المسيحيين العرب، لم يحرّكوا طائراتهم في الجوّ لقصف داعش وردعها عن مهاجمة المسيحيين في سهل نينوى أو شمالي نهر الخابور، فلماذا يتحركون مع الفرنسيين الآن لمؤتمرات باحثة، ما هو الثمن المطلوب لدفعه؟ هؤلاء لا يتحركون حبًّا وإخلاصًا بالمسيحيين العرب، بل استدراكًا لمصالحهم المهدّدة.
يشبه وضع المشرق كثيرًا الوضع المرضيّ الذي بلغته الشاعرة الراحلة ناديا تويني. "قل لمعلمك أن يخفّف صليبه عنّي". الفرق بأنّ الشرق لا ينوء بأحداثه تحت صليب المسيح. فالمسيح وبتعبير غير رمزيّ جعل من المشرق جسده في لحظة التجسّد، أي في كمال الزمان، فالمشرق بهذا المعنى رام دومًا إلى قيامة المسيح المتحرّكة فيه بالنور المتدفق من القبر على الرغم من المعاناة. لكنّه باصطفاف الأحداث وحراكها الدامي، في وسط صراع مرير بين صليب المسيح وصليب القوى العبثيّة. في اللاهوت، انبلج صليب المسيح مدى للقيامة، وفي المعنى الدقيق شعّت عليه لحظة إسلام المسيح روحه. لكنّ صليب تلك القوى تضج في عموديته وأفقيته قوى الجحيم تحرق الأرض بعبثيّة منطلقاتها تبيدها بنيرانها المشتعلة. هذا لاهوت ليس فيه قيامة، إنّه لاهوت الموت العدميّ.
"اليوم الصليب يرفع والعالم يتقدّس"، كما تقول ليتورجيّة عيد الصليب. المسيحيون يتقدّسون به لأنّ المسيح ارتفع عليه ومات وأسلم الروح. الصليب صورة عن الحبّ المبذول، والحبّ ثالوث. والتعبير في الليتورجيّة يتجسّد حين يطوف الكاهن حسب الطقوس الأرثوذكسيّة بصينيّة مليئة بالزهور والرياحين، والصليب في وسطها بين ثلاث شموع. يسجد ثلاث مرات ويعلن لصليبك يا سيدنا نسجد ولقيامتك المقدّسة نمجّد. كلّها تعابير فصحيّة بامتياز. وهي تنسكب على بهاء كبير لتعلن، وبلغة الثالوث، بأنّ الله أبًا وابنًا وروحًا قدسًا يطوف في الأرض. صليب المسيح يرفع في وسط المشرق في آلامه وفي عمق جراحه ليقول بأنّ تلك الآلام آلام المسيح، وما الجراح سوى جراحه، ونحن بها قد شفينا كما قال أشعياء، وما الشوق سوى لنصر يحققه الله بالحقّ والسلام.
كنيسة المسيح كنيسة الشهداء. سنستمر في النصال حتّى نرث القيامة في شهادتنا، والشهادة حقّ في أرض المحبّة، أرض القيامة.
(1) وُلدت القديسة هيلانة (حوالي 250-327 م) بمدينة الرُها من أبوين مسيحيين وهي والدة الإمبراطور الروماني قسطنطين الكبير. وهي من اكتشفت بعد بحث دقيق مكان وجود الصليب الّذي صُلِبَ عليه المسيح.