عاد مشهد تراكم النفايات في شوارع بيروت الإدارية اعتباراً من ظهر أمس. إذ أبلغت شركة سوكلين الجهات المعنية أن موقع تجميع النفايات الموضوع في تصرفها في الكرنتينا لم يعد يستوعب أي كمية نفايات إضافية، وبالتالي لن تكون الشركة قادرة على رفع النفايات إلا بعد إيجاد موقع جديد. وبحسب مصادر في الشركة، ستتواصل عمليات رفع النفايات من الضاحية والبلديات الأخرى التي وفّرت مكبات تستوعب المزيد من النفايات.
خيار إجباري
هذا التطوّر جاء بعد نحو أسبوع على إقرار مجلس الوزراء ما أطلق عليه اسم المرحلة الانتقالية من خطة معالجة أزمة النفايات الصلبة، التي وضعتها لجنة من الخبراء برئاسة وزير الزراعة أكرم شهيب، والتي رفضتها مجموعات الحراك المدني. هذا التطور سيفرض إيقاعاً مختلفاً عن الأيام الماضية، إذ يجري العمل على قدم وساق لجعل مقررات مجلس الوزراء خياراً وحيداً أمام الجميع، وتبرير قمع أي اعتراض على إعادة فتح مطمر الناعمة وإقامة المكبات الجديدة في المواقع المقترحة.
في هذا الوقت تكثفت الضغوط من أجل حمل أهالي عكار على القبول برشوة الـ150 مليار ليرة في مقابل فتح مكب سرار لجزء من نفايات بيروت وجبل لبنان. وعُقد لهذه الغاية اجتماع ضم وزير الداخلية نهاد المشنوق إلى رؤساء اتحاد بلديات عكار وعدد من رؤساء البلديات العكارية، بحضور النواب هادي حبيش ومعين المرعبي ورياض رحال وخضر حبيب، وتقرر عقد مؤتمر عند الرابعة من بعد ظهر الجمعة في بيال، تشارك فيه البلديات العكارية وروابط المخاتير وممثلون عن المجتمع المدني والنواب الحاليون والسابقون والجمعيات والهيئات الأهلية وخبراء بيئيون.
وعقدت لجنة البيئة النيابية جلسة قبل ظهر أمس، في المجلس النيابي، برئاسة النائب مروان حمادة وحضور وزير الزراعة أكرم شهيب، وجرى التداول في كيفية استدراج الحراك الشعبي نحو الضغط لتنفيذ الخطة بعدما كانت حركته حافزاً لاعتمادها. وكذلك استدراج الإعلام لمساندة الخطة عبر إطلاق «حملة وطنية عارمة». وقال شهيب بعد الاجتماع في لهجة تهويلية: «إن الملف لا يتحمل الرفاهية، وهو بحاجة إلى تعاون الجميع (...) لأن المشكلة لا تحتمل التأخير أو رفاهية النقاشات».
إلا أن أهمية كلام شهيب تظهر في محاولة الإيحاء أن هناك انقساماً في الحراك، إذ ركّز على انضمام جمعية «لا فساد» إلى اللجنة الفنية، التي سيشكلها وزير الداخلية، و»التي تضم المعنيين من الوزراء والمجتمع المدني وUNDP والاتحاد الأوروبي». وقال: «في النهاية الشك بقدرة الدولة على تنفيذ قراراتها هذا لا يجوز».
على صعيد الاتصالات السياسية، التقى وزير الداخلية أمس ممثل تكتل التغيير والإصلاح النائب ألان عون، وكان لافتاً كلام عون بعد الاجتماع عن وجود أفكار لتذليل العقبات في شأن خطة النفايات وضرورة وجود «قراءة صحيحة للوضعين الداخلي والخارجي، تمكننا من التوصل إلى حلول لمشاكلنا». وقال: «أعتقد أن وزير الداخلية سبّاق في تلك القراءة، آملين أن يُسهم هذا الشيء في تقديم أفكار تؤدي إلى الحلول».
هذه الضغوط والاتصالات لم تخف الارتباك الظاهر في تعاطي الأطراف المختلفة مع مقررات مجلس الوزراء. فمن ناحية، لم تتخذ بعد أي خطوات عملية، ما عدا إلغاء عقدي المعالجة والطمر مع شركة سوكلين، وهو ما أثار إشكاليات كثيرة غير واردة في المقررات عن الجهة التي ستلتزم عملية نقل النفايات إلى المكبات المحددة إن سمح الأهالي بوجودها.
تفيد مصادر شركة سوكلين بأنها تبلغت من الوزير شهيب، أن النقل من أمكنة التجميع إلى المكبّات المستحدثة سيكون من حصتها، فيما قالت مصادر أخرى إن التلزيم هو من صلاحية مجلس الإنماء والإعمار وفق قرار مجلس الوزراء، وهو لا يزال يدرس الاحتمالات ومن ضمنها تكليف سوكلين النقل لفترة محدودة (شهر مثلاً) في انتظار استكمال إجراءات التلزيم.
قرار اللاثقة
إذاً، تجددت الضغوط على الأرض لتحسين شروط كل طرف، على صعيد الحصص السياسية أو على صعيد ريوع العقود والصفقات، فيما يقف الحراك الشعبي أمام تحدٍّ غير بسيط. فقرار مجلس الوزراء يزيد من حالة انعدام الثقة. اللاثقة ليست وليدة موقف مسبق من السلطة، بل لأن الوزراء قرّروا تفريغ خطّة لجنة الخبراء من المهل الزمنية الواردة فيها، ولأن النقاشات بينهم دارت على قاعدة السعي لإطفاء الحراك الشعبي، وإعادة توزيع الحصص مناطقياً وسياسياً ومذهبياً وطبقياً.
يوم الأربعاء الماضي عقد مجلس الوزراء جلسة مخصصة لملف النفايات وللخطة التي أعدّتها لجنة الخبراء تحت إشراف شهيب. المجلس أصدر قراراً مؤلفاً من 10 بنود وثلاثة ملاحق. خلاصة القرار أنه يعتمد مبدأ اللامركزية في معالجة ملف النفايات في إطار المرحلة المستدامة، أي إعادة الصلاحيات للبلديات واتحاداتها. إلا أنه في المرحلة الانتقالية، سيجري نقل النفايات إلى مطمر الناعمة الذي سيفتح لسبعة أيام، ثم سيقوم مجلس الإنماء والإعمار خلال شهر تجهيز مطمرين في سرار ــ عكار، ومنطقة المصنع ــ البقاع الغربي، واستكمال دراسة تأهيل مكبّ برج حمود، ومكبّ رأس العين في صور، واستعمال معمل النفايات في صيدا. ويضاف إلى ذلك إصدار مراسيم توزيع الأموال من الصندوق البلدي المستقلّ وحصص البلديات من عائدات الهاتف الخلوي، وتخصيص مبلغ 150 مليار ليرة لمشاريع تنموية في البقاع تُصرف عبر الهيئة العليا للإغاثة.
ملائكة سوكلين
جاء هذا القرار بعد نقاش مستفيض تخلّله تلاسن بين وزيري البيئة محمد المشنوق والزراعة أكرم شهيب. الأول تكلّف عناء الذهاب إلى كرسي الثاني و«هَمَسَ» في أذن شهيب: لم لا نحصر النقاش بالمرحلة الانتقالية ونترك المرحلة المستدامة إلى وقت لاحق؟ انتفض شهيب صارخاً في وجه المشنوق، لكن سرعان ما هدأت الأمور. كلام المشنوق لم يكن وحده يعبّر عن أفكار تتصل بمصالح سوكلين وقدرتها على تجنيد وزراء في الحكومة، ففي ركن آخر من قاعة مجلس الوزراء، صدرت أصوات تأفّف تحاول تمييع النقاش في المرحلة المستدامة من خطّة لجنة الخبراء.
غالبية الوزراء المتأفّفين كانت لديهم رغبة في تأجيل النقاش في المرحلة المستدامة إلى وقت لاحق. السبب، بحسب مصدر مشارك في هذه الجلسة، هو أن هناك اعتقاداً راسخاً لدى الوزراء بما يمثّلون من قوى سياسية وزعامات طائفية، بأن الهدف ليس معالجة ملف النفايات، بل إطفاء الحراك الشعبي وامتصاص النقمة الشعبية التي تحوّلت إلى قنبلة موقوتة في كل منزل. وبالتالي، بعد استقالة المشنوق من رئاسة اللجنة المكلّفة من مجلس الوزراء، كان لا بدّ من تقديم «جزرة» ثانية تتيح إمرار صفقات بالمفرّق في المناطق عبر الخطة الانتقالية وتحويلها إلى مرحلة دائمة مع الإبقاء على التوزيع السابق الذي أفرزته نتائج المناقصات الملغاة.
باختصار، يقول المصدر إن الوزراء دخلوا إلى الجلسة بخلفية البحث عن مطمر بديل من مطمر الناعمة ينهي كل النقاش في النفايات، ويبقي سوكلين وأخواتها على رأس إدارة وتشغيل ملف النفايات في لبنان.
إلا أنه يشير إلى أن بعضهم الآخر استغلّ المناسبة لنهب حصّة من المال العام لم تكن متوافرة له سابقاً. فحزب الطاشناق وممثلوه في الحكومة اشترطوا إعادة إحياء مشروع «لينور» لردم أجزاء من البحر وتمليكها لشركة عقارية على شاكلة «سوليدير»، في مقابل الموافقة على فتح مطمر برج حمود.
قرار يجتزئ الخطة
في مثل هذه الأجواء، خرج قرار مجلس الوزراء بنسخة مجتزأة عن خطّة لجنة الخبراء التي حذف منها المهل الزمنية في ما يتعلق بالمرحلة المستدامة، أي المرحلة التي تلي المرحلة الانتقالية. لم يذكر القرار مهل إعداد مسوّدات دفتر الشروط، ولا مهلة مناقشته مع البلديات، ولا مهلة عروض المناقصات، ولا مهلة تحديد المناطق الخدماتية... وبحسب الوزير السابق شربل نحاس، «لا همّ لدى قوى السطة سوى تنفيس التحرّك. كل هذه الأفلام تسعى إلى إطفاء الحراك. وافقوا على خطّة سبقتها مئات الخطط ومئات القرارات، لكن جميعها لم تقترن بالتنفيذ، أو جاء تنفيذها نسخة مشوّهة على قياس هذه السلطة ومساعيها. خطّة لجنة الخبراء ليست هي المهمّة، بصرف النظر عن مضمونها، فالمهم هو ما جاء في القرار التنفيذي الصادر عن مجلس الوزراء».
إذاً، قرار مجلس الوزراء هو المحور الأهمّ. أبرز ما يمكن ملاحظته في القرار، أنه جاء فارغاً من المهل الزمنية، وأنه «عبارة عن موافقة على توجهات وعناوين. أين يصرف هذا القرار وكيف؟»، يسأل نحاس.
أسئلة عن التراضي والضمانات
قرار مجلس الوزراء جاء منفصماً عن الخطّة التي أعدّتها لجنة الخبراء. وقعت هذه الخطة فريسة أهداف القوى السياسية الساعية إلى امتصاص الحراك عبر قرار يقدّم «جزرة» ثانية بعد «جزرة» انسحاب وزير البيئة من لجنة معالجة ملف النفايات الصلبة، وبالتالي بات على لجنة الخبراء مسؤولية الدفاع عن خطّتها ضمن خطين: إقرار مجلس الوزراء المراسيم التي تطبّق هذه الخطّة من دون اجتزاء بشقيها، أي المرحلة الانتقالية والمستدامة، وقدرة اللجنة على التناغم مع مجموعات الحراك المدني للضغط على السلطة وإجبارها على تطبيق الخطّة، لتكون هذه المجموعات هي الضمانة إن تراجعت السلطة عن وعودها وقرّرت أن تتخلى عن الحلّ المستدام لحساب الحلّ الانتقالي.
طبعاً يؤخذ على خطة لجنة الخبراء أنها تتناغم مع مساعي الطبقة السياسية الساعية إلى إظهار أنها تبذل كل الجهد لمعالجة ملف النفايات لتنفيس الشارع الغاضب، وأنها سمحت باللجوء إلى مجلس الإنماء والإعمار كأداة تمثّل السلطة والقوى المتحكّمة بالخدمات العامة في لبنان منذ أكثر من عقدين، بهدف إجراء صفقات بالتراضي لتجهيز المطامر ولنقل النفايات إليها يجري توزيعها على المنتفعين والمقربين من الزعماء.
فبحسب المعطيات المتداولة، يجري التفاوض حالياً مع المقاول جهاد العرب لتكليفه تجهيز مطمر سرار، ونقل النفايات إلى المطامر. ويجري التفاوض مع المقاول قاسم حمّود لتكليفه تجهيز مطمر المصنع. تكليف حمود يأتي في إطار كونه ابن بلدة مجدل عنجر، ويجري التفاوض مع آخرين أيضاً لتجهيز المكبّات الباقية ولنقل النفايات خلال المرحلة الانتقالية. التفاوض يجري على أساس توقيع عقود بالتراضي للفترة الانتقالية، فلا يمكن خلال شهر واحد إعداد دفتر شروط وإطلاق مناقصات لهذه العملية، علماً بأن مداولات اللجنة تشير إلى أن هناك نحو سبعة مقاولين لديهم القدرة في لبنان على تنفيذ عقود من هذا النوع.
مخاوف شربل نحاس وغيره من المراقبين والمتابعين، أن تقوم القوى السياسية، تحت أي عنوان أمني واقتصادي واجتماعي وسياسي، بتحويل المرحلة الانتقالية إلى مرحلة دائمة. الخطط يمكن كتابتها ومناقشتها والتوصل إلى أفضلها، ثم إقرارها من قبل السلطة التنفيذية، لكن من هي الجهة الضامنة لتطبيقها؟ هل يمكن التغيير من خلال استئناف الحراك واستمراره بصرف النظر عن روزنامة نشاطات لجنة الخبراء والضمانات المقدمة لهم من السلطة السياسية؟ أم تتمكن هذه اللجنة من تحويل الحراك إلى ضمانة لها؟ من الذي يضمن ألّا تبقى اللجنة بعيدة عن تسويات السلطة السياسية؟
100 مليون دولار
هي قيمة المبالغ التي خسرتها شركة سوكلين بسبب «عدم تجديد عقدي المعالجة والطمر ضمن المنطقة الخدماتية في بيروت وجبل لبنان». إلغاء هذا العقد مثّل ضربة كبيرة لشركة سوكلين التي كانت تحتكر عقود الكنس والجمع والطمر والمعالجة والنقل لمنطقة بيروت وجبل لبنان منذ أكثر من 20 سنة. ففي عام 1994 منحت مجموعة Averda التي تشمل شركتي سوكلين وسوكومي العقود ضمن بيروت مقابل 4 ملايين دولار، وتوسعت لاحقاً لتشمل 292 بلدية في محافظة جبل لبنان، ارتفع المبلغ بسرعة إلى 102 مليون دولار في عام 1996، ولم يلبث أن بلغ 150 مليون دولار في نهاية السنة الماضية، علماً بأن كمية النفايات التي تعالجها الشركة لا تتجاوز 25% كحدّ أقصى، فيما تطمر الكميات الباقية كلّها. هذه الشركة وعقودها مع الدولة اللبنانية الممولة من الصندوق البلدي المستقل بقرارات إدارية مخالفة للقوانين هي «صندوق أسود» على حد تعبير المتعهد رياض الأسعد. فهذا الصندوق موّل حملات انتخابية للسياسيين وانتخابات بلدية أيضاً.