عندما لاحت الأزمات في الدول العربية تحت عنوان "الربيع العربي" اعتقد الشيوعيون ان الفرصة مؤاتية لبث الحياة من جديد في حزبهم العجوز. شاركوا في الاحتجاجات ونظموا التظاهرات واطلقوا الشعارات الشعبوية. استندت "ثورتهم" الى الأزمات الاجتماعية القائمة وغياب التنمية وسخط الناس على السلطات وفشل الحكومات ودكتاتورية الحكّام.
مرت خمس سنوات على "الربيع العربي"، سقطت أنظمة وتهاوت رئاسات، لكن أين الشيوعيون؟ ماذا حلّ بهم؟ لماذا لم يحصدوا تأييداً شعبياً بسيطاً؟ لماذا اصبحوا نَسِيًّا مَنْسِيًّا مع انهم يرفعون شعارات محقة؟ هل الاسباب هي في المبادئ التي يؤمنون بها؟ قد يكون ولىّ عليها الزمن، مع العلم ان الناس تهرب من التطرف الديني والإرهاب التكفيري، ما يعني ان المنطق يفرض توجه الشعوب الى الأفكار المضادة للتطرف.
يسخر خصوم "اليسار" منهم الى حد القول: "سقطت الشيوعية في العالم ولم تعد تصلح لزماننا".
يحتاج هذا التعبير لتدقيق عميق، خصوصا ان الشيوعية تهدف الى تحقيق العدالة الاجتماعية التي يبتغيها الشعب.
قراءة بسيطة في العالم العربي تثبت ان الشيوعيين تمردوا على الأنظمة لكنهم سلموا "الثورات" الى الحركات التكفيرية وجلسوا يتفرجون. اكثر من ذلك هم لا يعترفون بأخطائهم وفشلهم. راجعوا ما حصل في سوريا مثلا. شيوعيون تقدموا الصفوف منذ عام 2011، لكنهم هربوا سريعاً تاركين خلفهم مناطق الازمة للحركات الاسلامية المتطرفة.
الأخطر ان الشيوعيين لا زالوا يعتبرون ان الصراع اليوم يدور في سوريا بين نظام ومعارضة سلمية. هم يهللون لاي استهداف ينفذه تنظيم "داعش" بحق الجيش السوري. راقبوا تصريحاتهم ووسائل التواصل الاجتماعي عندهم. غريبون!
هل هو الحقد؟ يحق لهم ان يحقدوا على أنظمة طائفية. اساسا كل العلة هي في تلك الأنظمة. لكن يبدو ان حقدهم تجاوز ذلك ليطال كل من يعارضهم او لا يتوافق معهم. هم يورّثون الثأر نتيجة إجهاض مشاريعهم.
منذ أسابيع عندما حاول شبان "احتلال" وزارة البيئة اللبنانية جاءت رئيسة حزب "الخضر" ندى زعرور للتوسط معهم فثار "اليساريون" متهمين إياها بالفساد. زعرور ليست في السلطة ولا هي تمثل حكومة او شغلت منصبا قياديا. لكن مجرد محاولتها حل الازمة كادت تعرّض رئيسة حزب "الخضر" لاعتداء جسدي بعد تعنيفها كلاميا. غريب هذا الحقد. انه يدمر مجتمعاً. هو يشبه تطرف "داعش" بأساليب مختلفة.
حراك الشعب اللبناني ومطالب الناس المحقة استغلها "اليساريون الجدد" وركبوا الموجة. تبعتهم قيادة الحزب الشيوعي. حاولت تلك القيادة كعادتها الإيحاء بانها لا تزال شابة تتبنى المطالب. حاولت القفز فوق اتهامها بأنها "فقدت تمثيلها" للقول انها لا زالت في درب النضال تتقدم الصفوف. بالكاد يقرأ اليساريون مقالا كتبه رئيس الحزب خالد حدادة في جريدة. هذا اقصى ما يفعله هو الآن، حتى محاولة اعادة الحزب الى دور مقاوم فشلت. من حمل السلاح في البلدات على الحدود الشرقية هم اهل المنطقة لا بسبب "شيوعيتهم" بل بسبب انتمائهم الى تلك المنطقة المحاذية للحدود السورية حيث تهدد المجموعات التكفيرية اهاليهم هناك.
بين "اليساريين الجدد" وارتباط بعض قياداتهم بقوى او سفارات او عواصم غربية او اجهزة استخبارات وبين قيادة الحزب الشيوعي سباق دفع حدادة الى رفع سقف خطابه وحركته الى حدود اللاهدف سوى إثبات الوجود في الشارع اليوم.
فوضى التحرك اليساري خفّف من حجم المتظاهرين. لو لم يكن الشيوعيون في مقدمة التظاهرات لكانت الاعداد مضاعفة. صحيح ان غباء السلطة في لبنان وتواطؤ قوى سياسية ضد مصالح المواطنين أبقوا سقف الخطاب عالياً، لكن تصرف اليساريين الفوضوي فرض الحذر وأحبط حراك الناس الحقيقي.
يصفق الناس لخطوة سوق "ابو رخوصة"، لانه يعبر عن تاريخهم وواقعهم واملهم. ذاك النوع من التحرك الحضاري ارقى وافعل. الناس تنتقد تصرفات التحدي التي تظهر في وسط بيروت احياناً خلال التظاهرات. هل هي مؤامرة الشيوعيين على الشعب؟ حاولوا فرض وجودهم على حساب مصالح الناس. هم يعرفون ان لبنان يحتاج لنظام مدني لا طائفي وقانون انتخابي يعتمد النسبية ومجالس تحاسب وتراقب. هم يعلمون ان المخاطر الإرهابية تهدد لبنان نظرا لوضع المنطقة وتمدد التطرف. هم يعرفون ان الدول المحيطة بنا تتنازع فيها المصالح الدولية. هم يدركون ان وحدة اللبنانيين اهم من فوضويتهم. هم متأكدون ان الحوار سبيل نهائي لحل أزمات الداخل. رغم ذلك يقفزون فوق الحقائق لإجهاض سبل الحل و تعميم الفوضى.
الا يعتبر التظاهر من دون هدف هو طريق الى الفوضى؟!
ما هو هدفهم؟ إسقاط النظام؟
فلنفترض ان النظام سقط. وهو مطلب محق. كيف يسقط؟ هل بإعلان كل السلطات المتبقية الاستقالة من دون خطة واضحة؟
كل اللبنانيين يريدون إقالة النظام السياسي القائم. هذا مطلب وطني جوهري.
لكن اللبنانيين يخشون الفوضى الشاملة في ظل العشوائية وعدم التدرج في التغيير.
اذا كان الحزب الشيوعي نفسه يفشل في لمّ صفوف يسارييه وتوحيد "الدكاكين"، كيف يمكن له توحيد الرؤى حول نظام لبناني جديد؟
التهوّر يقود لبنان الى ابشع مما يحصل في العراق وسوريا حيث يعمّ التطرف في اماكن تواجد الارهاب.
فهل يتعقل الشيوعيون؟ ام يمضون كعادتهم الى حيث اللاهدف سوى الاعتراض واثبات الوجود؟
ترتكب قيادة الحزب الشيوعي خطأ الانجرار في السباق مع "اليساريين الجدد"، وتقود معها لبنان الى الفوضى.
هذا ما تسعى اليه عواصم كبرى. الشيوعيون ليسوا متواطئين بل يجري توظيفهم في خطة فوضى المنطقة تمهيدا للتقسيم المطروح. عندها لن يجرؤ شيوعي على الحديث عن شيوعيته. مثال الرقة و دير الزور وشمال حلب وادلب ودرعا وما بينهم واضح.
لبنان على الطريق. فلننتظر.