التقت عناوين عديدة في خطابيّ مؤسس "التيار الوطنيّ الحرّ" العماد ميشال عون، ورئيسه الجديد جبران باسيل. حاول الرئيس الجديد مقاربتها بقراءته لمستقبل "التيار الوطنيّ الحرّ" باسطًا ولايته من خلالها، بعد حقبة كادت تنذر بانقسام عموديّ يتربّص بالتيار بعمقه وجوهره، وهو في الأساس ما كان معدًّا من خصوم التيار، بل كان قرارًا أخذه العماد ميشال عون على عاتقه، وخشي كثيرون من اتجاه التيار إلى نوع من انشطار بنيويّ وظهرت على ما يبدو انتظارات هائلة لدى من شاؤوا الانقضاض على عون مستهلكة عمليّة الخلاف في "التيار الوطنيّ الحر"، لتشدّه نحو الانقسام تمهيدًا للتلاشي المطلق.
ليس الهدف من تلك العجالة العودة إلى الحالة الماضويّة القريبة لواقع التيار والاحتجاب خلف إرهاصاتها وسطورها. بل الهدف التحليليّ والتشخيصيّ الإيضاح بأنّه لو لم يتمّ التوفيق بين الفريقين المتخاصمين وصولاً إلى ترسيخ منطق التوافق الداخليّ، لكان ذبل التيار كثيرًا كما تذبل الأوراق وتصفرّ في فصل الخريف، وبلغ نحو ما اشتهاه له خصومه. هذا الإيضاح موضوع أمام من لا يزال يحيا في أفلاك الرفض والانتقاد العبثيّ للنتيجة التي أفضت إلى رئاسة جبران باسيل. والرافضون على حقّ في المطلق وبخاصّة الأوفياء منهم وهم يرومون إلى ترسيخ المسرى الديمقراطيّ، كإطار طبيعيّ وموضوعيّ لنموّ التيار، وضخّ الحياة فيه بدماء جديدة تبيح له الاستمرار، ولكنهم ما كانوا على حقّ في الواقع، ذلك أنّ الواقعيّة السياسيّة تفترض القراءة العقلانيّة والمتأنيّة للأحداث على الأرض والتبصّر بها مليًّا وبحكمة ورويّة، وفي ظروف سياسيّة مهيمنة ومعقّدة جدًّا في لبنان وسوريا والمنطقة.
وفي هذا الإطار، لا يمكن التنكّر في الحدود الجيو-سياسيّة، الواصلة بين لبنان وسوريا، بأنّ العماد ميشال عون بالإضافة إلى البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، أنتج وصالاً عميقًا وجذريًّا وجذوريًّا، بين موارنة لبنان ومحيطهم المسيحيّ العربيّ، خلال زياراته إلى أديرة صيدنايا ومعلولا وكنائس حمص العتيقة، وصولاً إلى حلب وبراد. ميزته أنّه كسر منطق الانعزال المغلق بحروفيّته لمسيحيي وبخاصّة لموارنة لبنان، وقد ساد طويلاً على مدى الأزمة اللبنانيّة. فبمجرّد أنّه أتمّ الوصال، يكون قد حمل العبء، عبء المسيحيين المشارقة على منكبيه، وهم مشرقيون في جذورهم وطقوسهم، و"عبء الحريّة ثقيل" كما كتب فيودور دوستيوفسكي الكاتب الروسيّ الكبير. هذا الإرث الكبير صار جزءًا من كيانيّة التيار وفعاليّته هنا وهنالك، وإذا لم يكن هذا الإرث جزءًا من التكوين البنيويّ، فإنّ مصير "التيار الوطنيّ الحرّ" يصبح كمصير بقيّة الأحزاب السياسيّة. لقد أجاب رئيس التيار الجديد جبران باسيل على كلّ تلك الأسئلة في عناوينها الداخليّة الخاصّة بالتيار ومستقبله، ولكن أيضًا أكّد على صلابة المضمون الحوهريّ، في التوجّهات السياسيّة العامّة بدءًا من الانكباب على الملفّ الحساسّ والكبير، وهو ملف رئاسة الجمهوريّة.
أكّد احتفال البلاتيا، أمرين أساسيين:
1-رئاسة التيار لجبران باسيل، والرئاسة تتجّه بالتيار نحو محطّات تجديديّة بعد عشر سنوات على تأسيسه في حلّته السياسيّة، كحزب له حجمه، ويستمدّ دوره من هذا الحجم.
2-رئاسة الجمهوريّة للعماد ميشال عون بالتأكيد على ترشيحه والضغط في سبيل تأكيد هذا الهدف على كلّ المستويات.
كما أكّد أيضًا على مجموعة مسلّمات سوّغت وتسوّغ نضاله، عدم التفريط بحقوق المسيحيين، عدم المسّ بمنطق الشراكة، تحرير رئاسة الجمهوريّة من استيلادها في كنف الآخرين، على الرغم من التخطيط الممنهج لإدخال البلد في سلوكيات الفوضى كما حصل سنة 1988 في التخيير بين الرئاسة والفوضى، وعدم وجود بديل عن الشريك المسلم في لبنان، والسير معه في اتجاه الحفاظ على الوطن بحالته الميثاقيّة، التأكيد على دور الجيش والمقاومة في الدفاع عن لبنان وحدوده من عرسال إلى معظم سلسلة جبال لبنان الشرقيّة.
أمّا على مستوى المسيحيين المشارقة، فأكّد على أن من يشاء الكلام حول المسيحيين المشرقيين، فالكلام يكون مع "التيار الوطنيّ الحرّ". لقد أرادهم رئيس التيار الجديد عنوانًا جوهريًّا في نضاله وتوجهاته وعمله، والمحافظة على وجودهم تتطلبّ المحافظة على نوعيّة الحضور المسيحيّ اللبنانيّ، في التفاعل السياسيّ الكيانيّ، بدءًا من انتخاب رئيس للجمهورية لا يكون دمية في أيدي اللاعبين الكبار في الإقليم الملتهب بل رئيس قويّ يحافظ على لبنان بمحافظته على مسيحييه ومسلميه بتوازن فاعل وراق ومضيء.
تلك عناوين وضعها "التيار الوطنيّ الحرّ" في محطاته الجديدة مع رئيسه الجديد. والطريق تبقى طويلة في تحوّل التيار إلى حالة مؤسساتيّة تبطل في جوفه تلك الشرذمات. الحالة المؤسساتية رهان ملقى ليس على جبران باسيل ولكن على معظم قياديي التيار ليصير أنموذجًا ناطقًا يكمّل رسالته بالإرث المكنون فيه من مؤسسه إلى كل الأجيال المتلاقية بجدّة الحياة فيه وجديّة العمل وفي وحدانية الوجود والتوجّه والهدف.