سوريا العنوان الرئيسيّ والمحوريّ في المعادلة الجديدة في منطقة الشرق الأوسط. منذ التاريخ المعاصر كانت محور كلّ تجاذب وحراك. وحينما انفجرت الأزمة وهبّت العاصفة في رحابها، قرأ كثيرون أنّ الحرب في واقعيّتها وخلفيّتها ليست فيها، بل هي عليها أكثر مما هي فيها، على الرغم من العسف الذي مورس في لحظات القسوة الممارَسة من قبل بعضهم في النظام على معارضين كثيرين، لا يمكن لأيّ أحد التنكّر لموجوديّتهم في سوريا، حتّى تنكّر بعضهم في هذا المحور المعارِض لحقيقة واقعيّة تجاهلوها بالكليّة، وهي أنّ الحرب ما كانت لإسقاط النظام بل كانت لإسقاط سوريا كوجود، وكحقيقة وجوديّة ثابتة كانت قطبًا كبيرًا ولاعبًا اساسيًّا في عناوين المنطقة وفي أوراق اساسيّة من لبنان إلى فلسطين.
الحجب انكشفت والأقنعة سقطت، ليس لأنّ طبيعة اللعبة تغيّرت، أو الأدوار تبدّلت، بعد توقيع الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ، ولكنّ لأنّ الأوروبيين فهموا في لحظات الصراع أنّ من دعموهم وموّلوهم من قوى تكفيريّة لم تعد منحصرة في أودية الصراع تلك، بل تشعّبت في كل مكان لتطال العمق الأوروبيّ والروسيّ. ولمزيد من التوضيح، إنّ الخطاب الروسيّ خلال حقبة الأزمة العاصفة بشدّتها كان مجرّد تعابير لفظيّة قيلت من هذا المسؤول أو ذاك. ملفّات كثيرة تحرّكت، أوراق اندثرت، مسيحيون تشرّدوا، مدن هدّمت، والخطاب الداعم كان لفظيًّا واكتفى الروس ببضعة بوارج راسية في ميناء طرطوس.
وفجأة تغيّرت المعادلة، لم يعد الخطاب الروسيّ محصورًا بإطاره اللفظيّ. صار القول فعلاً، بعد توقيع الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ، وفي خضمّ زيارتين وصفتا بالتنسيقيّة، خلال شهر قام بهما فائد فيلق القدس اللواء قاسم سليماني إلى موسكو وبعد مجموعة اتصالات وحراكات تشعّبت ما بين طهران ومسقط والرياض وصولاً إلى موسكو أخيرًا، وبعد ظهور تباين بين واشنطن وموسكو حول مسألة الحرب وطولها، شعر الروس بضرورة الدخول مباشرة إلى سوريا عبر بوابتيّ اللاذقيّة وطرطوس. وفي هذا الإطار ذهب بعض المحللين مذهبًا خضع للنقاش والتدقيق ولا يزال، يقولون فيه بأنّ ثمّة تنسيقًا بين الأميركيين والروس باتجاه إنشاء نظام جديد يكون تحت لواء روسيا في الشرق الأوسط. واتجهت قراءات بعضهم نحو الداخل الأميركيّ، حيث صدرت بعض الرؤى تنصح بضرورة أن تترك سوريا ولبنان للروس نتيجة بعض الخصوصيّات الدقيقة الجامعة بين روسيا والمسيحيين المشارقة، ولكون سوريا البوابة الاستراتيجيّة للحفاظ على الأمن الروسيّ والأوروبيّ. كان على هؤلاء أن يتبصّروا بعض الشيء ليس في النتيجة الحالية وكأنّها مولودة من رحم واحد، أو منطلقة من تبادل للأدوار. ذلك أنّ التباين بين الروس والأميركيين انكشفت حقيقته في ذلك المؤتمر الصحافيّ بين جون كيري وزير الخارجيّة الأميركيّة وسيرغي لافروف نظيره الروسيّ منذ شهر ونيّف، حين أشار كيري إلى أنّ الحرب على الإرهاب طويلة في حين أنّ لافروف شدّد على ضرورة القضاء على الإرهاب من جذوره، واعترف هذا الأخير بالخلاف حول هذا العنوان وعنوان آخر بقاء الرئيس السوري بشار الأسد في السلطة كجزء من الحلّ السياسيّ لسوريا. بهذا المعنى، ليس عنوان الخلاف الروسيّ-الأميركيّ الحرب على الإرهاب إذ هما متفقان على أهميّة تلك الحرب وضرورتها، غير أنّ الأميركيين شاؤوا في بعض المسرى المغلّف بغلاف الحرب على الإرهاب، الإبقاء على تلك الورقة كحالة استثمار للضغط بها في العمق الروسيّ والأوروبيّ، وتقول بعض المعلومات في هذا الخصوص بأنّ الأميركيين حاولوا في مضمون الخلاف ربط الورقة الإرهابيّة-التكفيريّة بالضغط على روسيا في مسألة أوكرانيا حتى تقدم روسيا مجموعة تنازلات بين سوريا وأوكرانيا. وتشير المعلومات عينها بأنّ الروس لم ترق لهم تلك الميوعة الأميركيّة فيما بنية المشرق بين سوريا واليمن تنهار، ويهدّد الانهيار روسيا وأوروبا.
أمام ذلك استنفر الروس، وقرروا دخول سوريا مباشرة بالتنسيق مع الصين، وتقول معلومات أخرى بأنّ الألمان والفرنسيين كانوا على بيّنة من هذا الأمر. في محصّلة الأمور صمد الرئيس بشار الأسد، مجموعة رهانات صدرت حول سقوطه في لبنان من فريق الرابع عشر من آذار، وفي السعوديّة راهن وزير الخارجيّة السعوديّة السابق والراحل سعود الفيصل على سقوطه، حتّى أنّ وزير الخارجية الحالي عادل الجبير بعد لقائه لافروف في موسكو قال بأنّ لا حلّ في سوريا إلاّ بسقوط الأسد. لم يسقط بشّار. المعارضة السوريّة بشقّها "الليبراليّ" أدخلت في صحراء الانتظار الطويل، لم يفهم أربابها بأنّهم ليسوا جزءًا من الحلّ. لقد سُمع لافروف يقول بأنّ الحلّ يفترض أن يكون بين السلطة والمسلحين ولم يقل المعارضة، ردّ وزير الخارجية السوريّ وليد المعلّم بأنّ لا حلّ مع المسلحين الإرهابيين، وكان الرئيس الأسد قد سبق المعلّم بهذا الكلام حين قال لا حلّ سياسيًّا قبل الحسم الميدانيّ حتمًا لم يقصد لافروف بأنّ الحل سيصير مع المسلحين هو فقط شاء توجيه رسالة إلى الجميع بحسب مصادر دبلوماسية روسيّة، ولافروف مدرك بأنّ لا حلّ يسوغ مع المسلحين الإرهابيين. لم يدخل الروس لتعزيز صمود الأسد، بل دخلوا لأنهم اكتشفوا خطورة الصراع بفحواه ومحتواه.
بعض المصادر أجرت مقارنة بسيطة بين الرؤية الأميركيّة سنة 2006 حول الشرق الأوسط الجديد، المنطلق من مجموعة أحداث كبرى كان اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري وبعد ذلك الحرب الإسرائيليّة على لبنان قمّتها، وقد قام على حرب مذهبيّة راهن الأميركيون عليها كمدخل لنظام منبث من رحم التلاشي والتمزّق والفوضى العبثيّة، وقد تماهى الرهان الأميركيّ مع رؤية إسرائيليّة قديمة منذ خمسينيّات القرن المنصرم، تكلمت فيها على بلقنة المنطقة من مبدأ التفتيت المذهبيّ والطائفيّ، والرؤية الروسيّة لشرق أوسط جديد منتظم متعقلن متوازن. يبطل فعل الحروب انطلاقًا من مبدأ الحرب على الإرهاب والقضاء عليه من جذوره.
تبقى المسألة الأخيرة وهي التي حرّكت المياة الراكدة، النزوح السوريّ إلى أوروبا، وتقول بعض الإحصائيّات بأنّ بين عشرة نازحين يوجد ثلاثة من الدواعش نزحوا وقد يكون لسبب النزوح ترتيبه وخصوصيته في الداخل الأوروبيّ. هذا عامل إضافيّ لتغيير المعادلة كلّها والاستيقاظ من هذا السبات. النزوح السوريّ قنبلة موقوتة يخشى أن تنفجر تباعًا في أوروبا. كل هذه العناوين المحتشدة على جنبات سوريا تشي بأنّ كمال الحلول سينطلق من الحسم الميدانيّ ليرسم عناوين المراحل الجديدة لا على مستوى الداخل السوريّ بل على مستوى لبنان والمنطقة، وفي الإقليم الملتهب برمّته.