لم تكن الزيارة التي بدأها البابا فرنسيس، هي الاولى لحبر اعظم كاثوليكي الى الولايات المتحدة، ولن تكون الاخيرة بطبيعة الحال. ولكن، نظراً الى الدور الاميركي الكبير في العالم، خصوصاً بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وبما ان اميركا دولة مسيحية ايضاً ويشكل البالغون الكاثوليك فيها نحو 23%، فإن من اللافت ايضاً ان زيارات البابوات الى هذه الدولة قليلة نسبياً.
البابا فرنسيس هو رابع حبر اعظم كاثوليكي يزور اميركا (بعد بولس السادس ويوحنا بولس الثاني وبنديكتوس 16) خلال فترة تمتد من 1965 وحتى اليوم اي خلال خمسين عاماً. وبغض النظر عن المعاني الروحية والدينية للزيارة التي لا يمكن الاستهانة بها نظراً الى الافكار "الثورية" التي يتميز بها البابا فرنسيس، فإن للزيارة ايضاً مضمونا سياسيا يتمثل في رسائل يتوقع ان يكون لها صدى على فترات قصيرة وطويلة بعد اتمامها.
بداية، لا بد من التنويه الى ان وصول البابا الى اميركا اتى عبر بوابة كوبا، وغني عن القول ان الحبر الأعظم الحالي لعب دوراً محورياً في عودة الحرارة الى العلاقة بين واشنطن وهافانا، باعتراف الحلفاء والاعداء على حد سواء. وتأتي الزيارة بمثابة شكر ودعم لسياسة الرئيس الاميركي باراك أوباما الذي قرر ركوب هذه الموجة والمخاطرة بقطع خيط لم يرغب اي رئيس قبله بعد ايام الراحل جون كينيدي في قطعه.
ويمكن تفسير الزيارة على انها دعم ايضاً للمنحى السياسي الذي سلكه اوباما في تعاطيه مع المسألة النووية الايرانية، ومعارضته العديد من الاصوات في الداخل والخارج التي كانت تدعو الرئيس الاميركي الى تغيير اسلوبه واعتماد اسلوب اكثر قوّة وحدّة. وقد يكون الامر اكثر من ذلك، بحيث ان ما ينادي به البابا فرنسيس من امور بالنسبة الى العلاقة مع الآخرين، يتعارض بشكل واضح مع ما يعلن عنه عدد من المرشحين الى الانتخابات الرئاسية، وهو امر قد يسبب لهم حرجاً قبيل الانتخابات.
شقّ سياسي آخر للزيارة يتمثل برغبة البابا في المحافظة على المسيحيين في الشرق، خصوصاً بعد الاحداث المؤلمة التي واجهتهم في عدد من البلدان وبالتحديد في سوريا والعراق حيث تم تهجيرهم عن سابق تصور وتصميم. ومن المنطقي ان يدعو واشنطن الى لعب دور اكبر في المحافظة على المسيحيين في هذه البقعة من العالم، اضافة الى عدم السماح بهجرة واسعة للسوريين والعراقيين من بلديهم بما يخل في الصورة الديموغرافية لدول المنطقة من جهة، ولدول العالم من جهة ثانية بعد تدفق المهاجرين الى اوروبا وغيرها من الدول، وما يمكن ان يترتب عليها من نتائج سلبية على الصعد الامنية والاجتماعية.
ولا بد ان يبحث البابا خلال الزيارة ايضاً، مسار الحل الذي يطبخ للمنطقة والصورة الجديدة التي ستكون عليها بعد وضع هذا الحل في مراحله التنفيذية الاولى من خلال التدخل الروسي المباشر والعلني في سوريا، ومصير المسيحيين في هذه الدول في ظل الوضع الجديد.
وليس مستبعداً ايضاً ان يعمد البابا الى استغلال زيارته الى اميركا وتحديداً الى نيويورك التي تضم مقر الامم المتحدة، للقاء الرئيس الصيني كزي جين بينغ. وقد لا يحصل اللقاء ويتم الاكتفاء بمصافحة عابرة وفق ما يقتضيه البروتوكول في حال وجد الرجلان في مكان واحد، ولكن المصادفة قد تكون باباً لحصول حدث تاريخي. اذ لا تنقص البابا فرنسيس الجرأة للقيام بهذه الخطوة، كما ان الزعيم الصيني لن يضع نفسه في موقف حرج من خلال عدم رد التحية بمثلها. ومن الممكن ان يكون باب الاصلاح المناخي بوابة العبور الى اللقاء، لان الرجلين معنيان به، فالبابا ينادي دوماً بوجوب المحافظة على المناخ والبيئة، والصين متهمة بأنها اكبر ملوّث للمناخ من خلال انبعاث الكاربون الذي يتسببه دخان الشركات والسيارات وغيرها... وقد تكون هذه البوابة ما يحتاجه البابا لفتح خط مع الصين ينطلق منه الى امور اكثر عمقاً كوضع المسيحيين في هذا البلد.
رسائل كثيرة في غضون ايام قليلة، هذا الوصف الذي ينطبق على زيارة البابا فرنسيس الى الولايات المتحدة، فماذا ستكون عليه النتيجة؟