كشفت أعمال التنقيب الجارية في موقع "الفرير" الاثري في صيدا، الجارية للعام السابع عشر على التوالي والتي ينفذها خبراء من "البعثة البريطانية" بالتعاون مع المديرية العامة للآثار في لبنان، عن عدد كبير من القطع المستوردة من جزيرة "ايفيا" في البحر الإيجي وهي اكبر جزر اليونان الى صيدا، بالاضافة الى العديد من اواني الشرب "سكيفوس" ذات المقابض نصف الدائرية او المزينة برسوم طيور التي عثر عليها، حيث وجد المنقبون إناء نادرا يتوسط جانبيه رسم لشجرة الحياة ويعود الى ما بين العامين 760 و 750 قبل الميلاد ويشير موضوع رسومه واتقانها الى رسام يعرف بإسم "سيسنولا".
واكدت خبيرة الآثار ورئيسة بعثة اعمال التنقيب البريطانية في موقع "الفرير" في صيدا الدكتورة كلود ضومط، ان "شجرة الحياة" مع ماعزتين متقابلتين تتسلقانها الموضوع المفضل للرسام "سيسنولا" الذي يستند وجوده الى معيار "الرموز" وليس الى "الاسلوب" وقد سمي "سيسنولا" نسبة الى إناء شهير من مجموعة "سيسنولا" العائدة الى دبلوماسي اميركي في قبرص، حصل على مجموعته من التنقيب في مواقع عديدة في الجزيرة المتوسطية خلال القرن التاسع عشر، وقد بيعت المجموعة الى متحف "متروبوليتان" في نيويورك واحدى قطعها الرئيسية اناء ضخم من "ايفيا" مزين على جهتيه بشجرة الحياة وماعزتين إلى جانبيها، ويعرض حاليا في متحف متروبوليتان، اما الإناء الصيدوني الذي سيخضع لتحليل مكثف، فسيكشف بلا شك عن مصدر هذه القطعة المميزة المتقنة.
مكتشفات مذهلة
وتركزت عمليات التنقيب استثنائيا هذا العام في الجهة الجنوبية من موقع "الفرير" بسبب اعمال البناء في مشروع المتحف الميداني الذي يعتبر الاول من نوعه في الشرق الاوسط، والممول من دولة الكويت، حيث سيسمح للزوار بالنزول الى الموقع نفسه تحت المتحف، للتنقل بين آثار المدينة القديمة المكتشفة ليروا بانفسهم كيف حفظت هذه الجولة المذهلة عبر الزمن ستغطي اكثر من خمسة آلاف سنة من تاريخ صيدا، منذ نهاية الالفية الرابعة قبل الميلاد وحتى القرون الوسطى المبكرة.
واوضحت الدكتورة ضومط، ان التنقيبات التي جرت هذا الصيف بشكل خاص كشفت عن آثار من القرون الوسطى والعصر الروماني، حيث بقيت اجزاء كبيرة من الدفاعات القروسطية للمدينة سليمة في الجزء الجنوبي من موقع "الفرير" وعلى رغم انها بنيت دفعة واحدة ولم تلاحظ اي مؤشرات الى تعديلات او تصليحات كبيرة، فان اجزاء مختلفة من هذه الدفاعات بقيت غير مكتشفة عبر السنين وهي تتألف من برجين نصف دائريين يشرفان على التحصينات ويبعدان عن بعضهما 55 مترا، وبينهما سوران مقوسان متوازيان بنيا على التوالي في الجهتين الشرقية والغربية من الخندق الدفاعي وهناك مساحة يتراوح عرضها بين 12 و 15 مترا تفصل بين السورين الداخلي والخارجي، اما الطريق المؤدية الى مدخل المدينة والبالغ عرضها بين ستة وسبعة امتار، فمحاطة بجدار من الصخور الرملية المصقولة وتظهر على الأقل ثلاث اعمدة رومانية في واجهته الغربية المماثلة لبناء قلعة صيدا البحرية ولهذه الاعمدة ثلاثة نتوءات (اطناف) كانت ربما تدعم بنية خشبية، هي على الارجح جسر او ممشى يمتد فوق الخندق الدفاعي.
هيكلان عظميان
وعثر على هيكلين عظميين سليمين لمهر وخنوص (صغير الخنزير) يقل عمرهما عن السنة، خارج سور المدينة، ويفترض انهما القيا من الحصن وعثر ايضا عند قاعدة الحصن على قطعة نقود نحاسية اسلامية منقوش عليها الشهادتان، وتعود الى اوائل العهد الأموي، اضافة الى هيكلي الحيوانين العظميين، وجد المنقبون العام الماضي 2014 مدافن جماعية صليبية في الخندق نفسه، يعتقد انها عائدة الى ما بين العامين 1160 و1256 ميلادي، جاءت نتيجة نزاع مسلح لانها تحتوي على بقايا انسانية معظمها لذكور بالغين وتحمل اثار عنف وتبدو الجروح من فعل بشري وتدل الى اعمال عنف واحيانا الى حروق، ووجد علماء الآثار قطعة نقود وخمسة ابزيمات احزمة من النحاس تشبه ما كان سائدا في لندن خلال القرون الوسطى، واعادوها الى الفترة بين 1250 و 1450 ميلادي.
وتؤكد الدكتورة ضومط، ان هذه المكتشفات قادت الى الاستنتاج بأن القبور الجماعية كانت نتيجة معركة وقعت في القرن الثالث عشر وشارك فيها الصليبيون وهذا تأكيد اضافي لسجل احداث صيدا الذي وضعه الملك لويس التاسع ووصف فيه احداثا تتوافق الى حد كبير مع الأدلة الأثرية"، موضحة في القوت نفسه انه جرى اكتشاف جدار دعم ضخم يعود الى الفترة الفارسية، الى الشمال من المدخل القروسطي لمدينة صيدا وعثر الى الجنوب من هذا الجدار على مزيد من آثار الفترة الفارسية وعلى غرف تعود الى معبد فينيقي وبداخل الغرف الفينيقية وجدت بقايا مرتبطة بطقس ديني تشمل ادوات يومية مثل تنور مليء ببزور الزيتون المحروقة التي كانت تستخدم كوقود على الارجح.
اهمية صيدا
على وقع اصوات المعاول والتنقيب الذي لا يهدأ، تثبت مرة اخرى اهمية صيدا في تاريخ البحر الابيض المتوسط عبر حركة الاستيراد الكبيرة من كريت ومايسنيه وايفيا واثينا ما جعل هذا من عمليات التنقيب الحالية احدى اهم البعثات الآثارية في الشرق، كونها تكشف عن شبكة من الاتصالات والمبادلات التي دامت آلاف السنين، فيما يكشف موقع "صندقلي" القريب من موقع "الفرير"، حيث بدأ العمل قبل خمس سنوات، وجود نظام ري رائع من العهدين المملوكي والروماني ومبنى من العصر الحديدي المتأخر.