ما إن جرى التوقيع على الاتفاق الإطار للملف النووي الإيراني والشروع في المفاوضات لإنجاز الاتفاق النهائي حتى بدأت حركة عسكرية كبيرة في سوريا. ذلك أنّ المجموعات المتطرّفة شنّت ثلاث هجمات قتالية على كلٍّ مِن جسر الشغور ومِن ثمّ تدمر وأخيراً في الجنوب من خلال ما سُمي «عاصفة الجنوب» والتي مُنيت بفشلٍ كامل بعد أن كانت تهدف للوصول الى قلب دمشق.
وفي تدمر حقق تنظيمُ داعش انتصاراً جزئياً بسبب نجاح الجيش السوري بقطع الطريق التي تربط تدمر بحمص. لكنّ الضربة القاسية للنظام السوري كانت في جسر الشغور حيث تمكنت المجموعات المتطرفة من اختراق خطّ الدفاع القوي للجيش السوري والسيطرة على المنطقة التي تشرف على معقل النظام في اللاذقية، ما أدّى الى تدنّي المعنويات.
ومن أبرز أسباب سقوط جسر الشغور ظهورُ سلاح نوعي للمرة الاولى مع هذه المجموعة وهو صواريخ التاد الاميركية والتي استُخدمت بوفرة قيل إنها تجاوزت الألف صاروخ.
الاستنتاج الذي خلصت اليه القيادتان السورية والإيرانية هو أنّ واشنطن قرّرت التحرك في سوريا من خلال إضعاف أوراق النظام السوري عبر السماح بتزويد هذه المجموعات بأسلحة نوعية، بهدف تحضير المسرح لمفاوضات يدخل إليها النظام السوري ومعه إيران بشكلٍ أضعف، فيما أخصامه يملكون اوراقاً ميدانية أقوى.
الرد الأول كان سريعاً لجهة إرسال عشرين ألف مقاتلٍ إضافي من حزب الله وعناصر عراقية وباكستانية وحتى أفغانية، إضافة الى إدخال قوة من رجال النخبة في الجيش الإيراني تمركزت جنوب دمشق.
وفي المرحلة الثانية سافر الجنرال قاسم سليماني الى موسكو حيث تمكّن من إقناع القيادة الروسية بإرسال أسلحة نوعية الى الجيش السوري تُرجمت لاحقاً بطائراتٍ متطوّرة من نوع ميغ 31 ناهيك عن دبابات حديثة واستكمل ذلك أخيراً بإرسال قطع بحرية وجنود.
وكان عاملُ الإغراء العسكري لموسكو الحضور المتنامي للمجموعات الشيشانية والتي حمَلَ ملفاً كاملاً متكاملاً حولها سليماني، إضافة الى سعي تركيا الدؤوب لإقامة منطقة حظر جوي شمال سوريا، أو بتعبيرٍ أوضح إخضاع هذه المنطقة لسلطتها المباشرة وهو ما يشكل تهديداً للقاعدة الروسية في طرطوس.
لذلك استقدمت القوات الروسية معها صواريخ من نوع ارض - جو وطائرات سوخوي متخصّصة باعتراض الطائرات الحربية المعادية. ويومها باشرت موسكو بتدريب طيارين سوريين على قيادة الطائرات الحربية المتطوّرة من نوع ميغ 31.
وفي الحسابات الروسية أنه طالما أنّ واشنطن بدأت تفكر بفتح ملفّ التفاوض حول سوريا بعد مشارفتها على الانتهاء من الملف النووي الايراني، فلا شيء يمنع من تعزيز حضور موسكو على الساحة السورية ليكون لها وزنٌ كبير في المفاوضات. طبعاً، إيران تدرك ذلك وبأنه سيكون على حساب نفوذها، لكنْ لا خيار آخر أمامها.
لذلك ربما اندفعت إيران لإدخال عنصر جديد الى «المغطس» السوري يساهم في تحصين النظام اكثر ويشكل عاملَ توازن ضمن الفريق الواحد. وقيل إنّ سليماني طار الى بكين حيث نجح مرة أخرى في إقناع القيادة الصينية بإرسال خبراء عسكريين الى سوريا، على أساس أنّ واشنطن تضع في أولوياتها المطلقة مواجهة وتطويق التمدّد الصيني. فلا ضيرَ من الشغب على واشنطن وإلهائها في سوريا.
وفي معلوماتٍ تُكشف للمرة الاولى فإنّ العاصمة السورية تستقبل خبراءَ عسكريين صينيين تماماً كما فعلت موسكو في بداية الحرب السورية، وهي تستعين بخبراتهم.
وتبدو إيران وكأنها تتحضّر لحربٍ سورية طويلة. ففريقُ المحافظين يضع حساباته على هذا الأساس بدءاً من تأمين الدعم المادي المطلوب وهو هائل، ومروراً بكلّ أنواع الدعم العسكري والبشري وعلى قاعدة أنّ الدفاعَ عن طهران وحزب الله في لبنان يبدأ من خلال الدفاع عن دمشق.
وهذا ما يفسّر التحوّلات الديموغرافية التي تطالُ مناطقَ ذاتَ طابع جغرافي معيَّن مثل الحزام الذي يحيط بالحدود اللبنانية والذي يتضمّن الطريق الذي يربط الساحل السوري بالعاصمة دمشق ومن هنا أهمية معركة الزبداني، والأهم الحلّ الذي يتضمّن نقل سكان الفوعة وكفريا، إضافة الى ما ينتظر ما تبقى من جرود عرسال والقلمون.
وكي لا نقرأ خطأ فإنّ واشنطن لم تعرقل الاتفاق حول الزبداني فيما شجع رئيس الوزراء البريطاني بصراحة القضاء على التنظيمات المتطرّفة في جرود عرسال والقلمون، وهو ما يقوم به حزب الله.
والحساباتُ المتشائمة لإيران سببها إحجام السعودية عن فتح باب التفاوض الجدّي معها. فحتى الآن يقتصر التواصل السعودي الإيراني على لقاءات شكلية وعلى مستوى منخفض على أراضي سلطنة عمان.
وهذا ما يجعل إيران تحسب لحرب طويلة في سوريا وأزمة أطول في لبنان قد تفتح الطريق أمام المؤتمر التأسيسي. فوفق الحسابات الإيرانية فإنّ السعودية تضع الحربَ في اليمن في أولوياتها وهي لن تتفاوض مع إيران قبل نجاحها في حسم عسكري. لكنّ لواشنطن رأياً آخر ونظرة وحسابات مختلفة.
فالسعودية قد تفتح أبوابَ التفاوض في أيّ لحظة خصوصاً إذا ما لمست أنها بحاجة لطهران للخروج من المستنقع اليمني بأفضل صورة.
كذلك فإنّ واشنطن تريد لا بل باشرت بوضع الملف السوري على الطاولة وهي تنظر بإيجابية حذرة للحركة الروسية، والأهم هو الغاز الذي جرى اكتشافه في البحر السوري والبحر اللبناني.
كما أنّ البدء بإزالة العقوبات لن يكون كافياً لطمأنة إيران. فداعش ينهش المناطق الأفغانية ليصبح عند الحدود الشرقية لإيران. وفي لبنان يزداد ضغط النازحين السوريين ما يهدّد الإنجازات الديموغرافية فيه وفي الحزام السوري الملاصق للحدود معه. أضف الى ذلك الصراع الداخلي الكبير في إيران والذي جعل طبقة التجار تقف كلها الى جانب الإصلاحيين.
وحريّ القول إنّ واشنطن ما كانت لتعلن موافقتها على بقاء الاسد ولو لفترة انتقالية لولا ثقتها بوجود فرص حقيقية لتسوية سورية يجرى بحثها في الكواليس. لكنّ المسألة بحاجة لبعض الوقت وهو ما يتطلّب ستاتيكو في لبنان واستقراراً حكومياً يريده أيضاً حزب الله وتيار المستقبل وبالتالي تهدئة العماد ميشال عون ولو بالحدّ الأدنى.