أصدر وزير الطاقة والمياه أرتور نظريان قراراً يقضي باستبدال 4 ملايين قارورة غاز متداولة في السوق. قرار نظريان يستند إلى توصية من لجنة نيابية فرعية منبثقة عن لجنة الاشغال العامة والنقل، وإلى موافقة مجلس شورى، وإلى الصلاحيات المناطة بوزارة الطاقة والمياه. اللجنة الفرعية المذكورة خلصت إلى تحديد ملكية القارورة للمستهلك لا للشركة، ثم قدّرت عدد القوارير المتداولة في السوق بنحو 4 ملايين، واحتسبت معدّل التعبئة بنحو 5 مرات سنوياً، واقترحت فرض زيادة على سعر القارورة بمقدار /1000/ ليرة فتنجز عملية الاستبدال خلال 10 سنوات.
تضارب الصلاحيات والمصالح
قرار نظريان يبرّر اللجوء إلى عملية الاستبدال من خلال الشكاوى التي تلقتها وزارة الطاقة والمياه والمديرية العامة للدفاع المدني وبعض الإدارات العامة عن وجود قوارير غاز معدنية في حالة سيئة مهترئة تضرّ بالسلامة العامة وتلحق ضرراً بالممتلكات العامة والخاصة، لكن الوزارة لم تكتفِ بهذا التبرير، بل أقرّت بأن الأسر المقيمة في لبنان ستدفع الكلفة: «المواطن لن يدفع ثمن القارورة الجديدة الفارغة دفعة واحدة عند إستلامها، إنما يدفع فقط ثمن القارورة المعبأة الذي يشمل بدل الاستبدال المحدد بـ 1000 ليرة لبنانية لكل قارورة سعة 10 كيلوغرام وفقا للتسعيرة الأسبوعية التي تصدر عن الوزارة لمادة الغاز السائل». وأضافت أن الناتج من تلف القارورة القديمة سيخصص لتغطية كلفة مراقبة عمليتي الاستبدال والتلف، وشراء قوارير جديدة.
في الواقع، فإن قرار نظريان ليس إلا ردّاً غير مباشر على بيان صادر عن وزير الصناعة حسين الحاج حسن قبل نحو شهر. ففي ذلك الوقت، أعلن الحاج حسن أنه «غير معني بالقرار الصادر وفق الصيغة المطروحة، ومن واجبه كمسؤول وكمواطن في آن واحد، اطلاع الشعب اللبناني على الحقائق». الوزير رفض مقولة «قوارير الغاز هي قنابل موقوتة»، لأنها تستخدم ذريعة لتمرير المشاريع لمصلحة المستفيدين.
موقف الحاج حسن يستند إلى التوصيات والخلاصات التي توصلت إليها اللجنة الوزارية المؤلفة من وزراء الصناعة والطاقة والداخلية: الوزراء الثلاثة درسوا الملف لأكثر من سنة في موازاة عمل ومتابعة لجنة الأشغال النيابية الفرعية... لقد توصلنا إلى خلاصات وتوصيات، استندت إليها وزارة الصناعة لتعد قراراً يتضمن تحميل الشركات المستوردة وشركات التعبئة والمواطنين كلفة الاستبدال. المشروع أرسل إلى كل من وزيري الطاقة والداخلية فجاء رد وزير الطاقة بأنه الوحيد صاحب الصلاحية باعداد وتوقيع قرار بهذا الخصوص».
هكاذ بات واضحاً أن المشكلة تتعلق بتضارب المصالح لا الصلاحيات. يظهر الأمر بوضوح من خلال مناقشات اللجنة الفرعية النيابية حول ملكية القارورة وافضل طريقة للاستبدال. ففي الواقع، فإن ملكية القارورة ليست للمستهلك، بل لشركات الاستيراد والتوزيع والتعبئة، وما يدفعه المستهلك ثمناً للقارورة هو بمثابة رهن، وذلك بدليل أن كل قارورة مدموغة بختم إحدى الشركات. وبالتالي فإن الصيانة تقع على عاتق الشركات، وهذا يعني أن الشركات تتحمل مسؤولية وجود قوارير غير صالحة للاستعمال في السوق.
اقتراح مرفوض
في النقاشات التي دارت في اللجنة النيابية، وفي اللجنة الوزارية أيضاً، برز رأي كانت له الافضلية دائماً، ويشير إلى أن الشركات لا تملك القوارير، بل المستهلك، وبالتالي عليه أن يدفع ثمن الاستبدال. لكن أحد الخبراء الموفدين من وزير الصناعة اقترح في إحدى جلسات اللجنة الفرعية أن تنشئ وزارة الطاقة مركزاً لاستبدال القوارير يدعى إليه المواطنون لتسليم القارورة القديمة واستلام قارورة جديدة، فيُحصر عدد القوارير المستبدلة في السوق نظراً إلى اهتمام المواطنين بسلامتهم الشخصية أكثر من أي أمر آخر، ويجري تحميل الكلفة للدولة أو توزَّع الكلفة على الشركات والمستهلك بعد احتساب قيمة القارورة التالفة (كلفة بيعها حديدا ونحاسا وسواهما). إلا ان ممثلي وزارة الطاقة وبعض أعضاء اللجنة الفرعية رفضوا هذا الاقتراح بشدّة تحت عنوان السلامة العامة التي يجب فرضها على المواطن.
طبعاً، كان المستهلك هو الحلقة الأضعف في هذه النقاشات التي فاز فيها أصحاب المصالح، اي شركات الغاز. كذلك انسحب الأمر على باقي النقاش المتعلق بعدد القوارير المتداولة في السوق. بدأ أصحاب المصالح يدسّون أرقاماً كبيرة عن 7 ملايين قارورة في السوق، ثم خفضت بعد نقاش طويل إلى 4 ملايين قارورة... تخيّلوا أن عدد الأسر في لبنان يبلغ 800 ألف أسرة، وهي تملك 4 ملايين قارورة، أي ان كل أسرة تملك 5 قوارير غاز! بعض المعنيين قالوا إن المطاعم والمقاهي وغيرها تستعمل أيضاً هذه القوارير، إلا أنه سرعان ما تبيّن أن هؤلاء يستعملون قوارير لتعبئة غاز «البروبان» لا الغاز المنزلي «البوتان»، وأن للبروبان قصّة أخرى. بعض الحجج المقدّمة تتعلق بوجود قوارير غاز سورية الصنع أو تركية الصنع حملها اللاجئون معهم وأنها قنابل موقوتة... لكن المفارقة أن القارورتين التركية والسورية مختلفتان شكلاً عن القارورة اللبنانية، ويمكن تمييزها بسهولة، وهي غير متداولة بكثرة.
آراء ومواقف بعض الوزراء والنواب لم تفارق أصحاب المصالح نهائياً، لتخرج توصية اللجنة الفرعية معتمدة على 4 ملايين قارورة بمعدل تعبئة يبلغ 5 مرات سنوياً. وعلى هذا الأساس جرى توزيع كلفة الاستبدال البالغة 140 مليون دولار (35 دولارا كلفة القارورة الواحدة) بمعدل 1000 ليرة على كل تعبئة لمدّة عشر سنوات.
أما في اللجنة الوزارية، فقد تمكن الحاج حسن، بصعوبة، من توزيع الكلفة على ثلاثة أطراف: شركات الغاز (المستوردين)، شركات التعبئة، المستهلك. إلا أن نظريان انسحب سريعاً وقرّر أن يصطف إلى جانب محتكري الغاز ومصالحهم على حساب مصالح المستهلكين.
احتكار التخزين: أرباح صافية
وليس في وصف محتكري الغاز أي مغالاة. فهؤلاء حصلوا على امتياز «الاحتكار» منذ مطلع التسعينيات إلى اليوم. هو امتياز يتقاسمونه وفق المناطق والطوائف ويؤمن لهم أرباحاً هائلة وكبيرة.
وبالاستناد إلى المعدل الوسطي لأسعار الغاز العالمية على مدى 23 سنة، وإلى إحصاءات الجمارك اللبنانية عن كميات الغاز الواردة إلى لبنان سنوياً. تشرح مصادر تجارية مطلعة ان المعدل الوسطي لربح الطن في مطلع التسعينيات كان 150 دولاراً وكان لبنان يستهلك 160 ألف طن، لكن معدل ربح الطن ارتفع حاليا إلى 240 دولاراً فيما زاد استهلاك لبنان إلى 250 الف طن. أي ان معدل ربحية الطن تبلغ 195 دولاراً فيما معدل الاستهلاك يبلغ 205 ألاف طن سنوياً. هذا يعني أن أرباح تجار الغاز بلغت 920 مليون دولار خلال السنوات الـ23 الماضية بمعدل ربحية يبلغ نحو 40 مليون دولار سنوياً.
هذه الأرباح توزّعت على مجموعة قليلة من الشركات تحتكر استيراد الغاز وتوزيعه بالتضامن والتكافل في ما بينها. نفتومار هي الشركة المستوردة وهي مسجّلة في اليونان يملكها طلال الزين وجورج متى. هنا يؤدي التخزين دوراً أساسياً في عملية الشراء. نحو أربع شركات تسيطر على السوق: غاز الشرق التي يملكها نعمة طعمة ووليد جنبلاط وطلال الزين أيضاً (مباشرة أو عبر مساهمات باسم شركات مملوكة منهم). استأجرت هذه الشركة أكثر من 16 خزان غاز من مصفاتي الزهراني وطرابلس مقابل مليون دولار سنوياً، وقد تولى هذه العملية رئيس مجلس الإدارة السابق بهيج أبو حمزة لمصلحة المجموعة التي تضم أيضاً شركات توزيع وتعبئة مثل صيداكو وناتغاز. إلا أن المفارقة أن هذه الخزانات تبقى فارغة طول السنة، وقد تبيّن لاحقاً أن سبب استئجارها هو لمنع الغير من استعمالها، أما الكلفة، فيجري استردادها من خلال إدراج رسم «تخزين» بقيمة 25 دولارا على الطن علماً بأن كلفة التخزين العالمية تراوح بين 2.5 دولار و4 دولارات.
ولدى شركة كوجيكو 3 خزانات مغلقة أيضاً، وهناك خزانات مقفلة في نهر الكلب تملكها شركة ليكويغاز، إضافة إلى خزانات شركة يونيفرسال المقفلة في عمشيت... أما الشركات العاملة في السوق، فهي نورغاز التي تحتكر الاستيراد والبيع في منطقة الشمال، ويتردد بين العاملين في تجارة الغاز أنها تحظى برعاية الرئيس فؤاد السنيورة. وهناك شركة يونيغاز في الدورة وميدكو أيضاً المرتبطة مباشرة بغاز الشرق... الأخطبوط كبير إلى درجة أن أقل من 5 شركات تحتكر أكثر من 90% من مبيعات الغاز في لبنان وهي تبقي الخزانات المستأجرة فارغة، أو تقفل المفتوحة منها بذرائع وهمية.