في الظاهر، لم يشذ ردّ رئيس "تيار المستقبل" ​سعد الحريري​ على الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله عن "معادلةٍ" ارتضاها لنفسه في الآونة الأخيرة، وتقوم على عدم ترك أيّ "إطلالةٍ" للأخير تمرّ من دون ردّ "وافٍ وشاملٍ" منه، لدرجةٍ باتت "إطلالاته" مرتبطة إلى حدّ كبير بـ"إطلالات" نصرالله، فمتى حضر حضر ومتى غاب غاب.

ولكن في المضمون، حمل ردّ "الشيخ سعد" هذه المرّة معاني ودلالاتٍ أعمق بكثير من مجرّد الردّ، فعلى قاعدة "عم أحكيكِ يا كنّة لتسمعي يا جارة"، سعى الحريري لإيصال رسائل "إيجابيّة" إلى المملكة العربية السعودية التي "توكّل" طوعيًا للدفاع عنها في وجه هجومٍ "مفترض" عليها، في سياق مهمّة البحث عن الدور التي لا يبدو أنّها وصلت لخواتيمها السعيدة بعد...

من يسيّس ​كارثة منى​؟

من باب كارثة منى التي عكّرت صفو ​عيد الأضحى​ المبارك هذا العام، مع سقوط مئات الحجّاج ضحية ما يسمّى بـ"التدافع"، في حادثةٍ هي الأكثر دمويّة في ​موسم الحج​ منذ سنواتٍ طويلة، أراد رئيس "تيار المستقبل" أن يردّ على الأمين العام لـ"حزب الله" ومن خلفه ​إيران​، علمًا أنّ السيد نصرالله لم يخرج عن المألوف، وهو لم يتخطّ الخطوط الحمراء، إلا إذا كان المطلوب السكوت بكلّ بساطة، وكلّ ما طالب به من إشراك للدول الإسلامية بالتحقيق سبقته إليه الكثير من الدول الإسلامية منها تركيا و​ماليزيا​ فضلاً عن إيران.

وعلى الرغم من أنّ الحريري رفع شعار "أهل مكّة أدرى بشعابها" عنوانًا لردّه، إلا أنّه لم يترك أهل مكّة يدافعون عن أنفسهم من تلقاء أنفسهم، بل توكّل طوعيًا عنهم للقيام بالمهمّة، وفق تعبير مصادر سياسية متابعة، حيث تشير إلى استنفارٍ غير مسبوق سُجّل في صفوف قيادات "المستقبل" بصورةٍ عامة، إذ سارع "الحريريون" للدفاع عن المملكة واتهام الآخرين بتسييس حادثةٍ دموية لتحقيق مكاسب آنية توظف في الأجندة الإقليمية، ووصل بهم الأمر لحدّ صياغة سيناريوهاتٍ متخيّلة عن مؤامرة إيرانية لسلب إدارة شؤون الحج من الرعاية السعودية، وهي سيناريوهاتٌ قد لا يضاهيها في القيمة سوى ما قيل في المقابل عن أنّ الحادث متعمَّدٌ ومقصودٌ لاستهداف عددٍ محدّدٍ من الحجّاج.

عمومًا، تشير المصادر إلى أنّ "المستقبليين" هم الذين سيّسوا القضيّة، وقبلهم السعوديون حينما حاولوا رمي الكرة في ملعب الحجّاج أنفسهم من بوابة "مخالفة التعليمات"، في وقتٍ لا يمكن لعقلٍ إنساني أن يسمح بمرور كارثة بهذا الحجم مرور الكرام، خصوصًا أنّها ليست الأولى من نوعها، بل يكاد موسم "الحجّ" يتحوّل إلى "عزاءٍ سنوي" نتيجة الأخطاء "المميتة" في التنظيم أولاً. وتلفت المصادر في هذا السياق إلى أنّ الدعوات لمعالجة الخلل القائم صدرت عن الكثير من الدول الإسلامية، وفي مقدّمتها تركيا التي كان نائب رئيس حزب "العدالة والتنمية" فيها الحاكم ​محمد علي شاهين​ أول من قدّم بلاده على أنّها قادرة على إدارة شؤون الحجّ بشكلٍ أفضل، في حين أنّ رفع الإيرانيين للسقف إلى مستوياته العُليا هو أمر طبيعي نظراً لعدد الضحايا الذين يحملون الجنسية الإيرانية، فضلاً عن الغموض الذي لا يزال يلفّ قضية المفقودين الإيرانيين حتى اليوم.

ماذا يريد الحريري؟

ولكن أبعد من قضية المأساة في منى وتداعياتها المحتملة على أكثر من صعيد، يبقى السؤال عمّا يريده الحريري بالتحديد من الدخول على الخط بهذا الشكل، وأيّ رسائل مباشرة وغير مباشرة يسعى لإيصالها من خلال المواقف التي صدرت عنه.

لا تتردّد المصادر السياسية في القول أنّ الهدف الفعلي من كلّ ذلك هو توجيه رسائل إلى المملكة في ظلّ الأزمة التنظيمية والمالية التي يعانيها "تيار المستقبل"، خصوصًا في ضوء ما يُحكى عن "كسر الجرّة" معه وعدم مساعدته كما في السابق، الأمر الذي ترجم جموداً كبيراً على خط مشاريع الحريري ووقفاً لرواتب مؤسساته، وهو الأمر الذي لم يعد باستطاعة الحريري تجاهله أو التنكّر له بأيّ شكلٍ من الأشكال، وبالتالي لم يعد أمامه سوى البحث عن دور بأيّ وسيلةٍ كان لاستعادة "أمجاد" الماضي الذي لا يريد الحريري أن يكون قد ولّى إلى غير رجعة بتاتاً.

وإذ تلفت المصادر في هذا السياق إلى أنّ الحريري حصل بالفترة الأخيرة على الكثير من الوعود، تؤكد أنها لم تترجَم مالياً في حساباته المصرفية، وتشير إلى أن السبب الرئيسي وراء ذلك يكمن في سلم الأولوليات السعودي، الذي لا يزال يضع الساحة اليمنية في رأسها، نتيجة تداعياتها على أوضاعه الداخلية. وتعتبر أنّ الإختلاف في وجهات النظر يكمن في هذه النقطة المفصلية، حيث يعتبر الحريري أن الأوضاع على الساحة المحلية لم تعد تحتمل أي تأجيل، خصوصاً بعد نمو الحركات المعارضة له في بيئة "تيار المستقبل" على نحو غير مسبوق، في وقت تعتبر المملكة أن الأمور لا تزال تحتمل التأجيل، لا سيما أن التسوية اللبنانية لم تنضج بعد.

بين الأسد والرئاسة

مفارقة أخرى تتوقف عندها المصادر، ألا وهي أنّ تقديم أوراق الاعتماد لم يقف عند أبواب موسم الحجّ، بل تعدّاه إلى الملفين السوري وحتى الداخلي، رغم الحوار المستمر مع الحزب والذي لا يبدو أنه وصل إلى أيّ مكان، سوى ما قاله السيد نصرالله شخصياً عن أنّ مجرّد الالتقاء أمر إيجابي.

هكذا، دافع الحريري عن السعودية متهماً إيران بتعطيل الاستحقاق الرئاسي، باعتبار أنّ حلفاءها في لبنان هم الذين يعطّلون نصاب جلسات انتخاب الرئيس، متناسياً بحسب المصادر أنّ القضية تبقى أكبر من هذه الجلسات، وهي مرتبطة بمقاربة الاستحقاق الذي وضعه "حزب الله" ومن خلفه إيران في ملعب "المسيحيين"، فيما ضاع السعوديون معه و"ضيّعوا" الحريري نفسه، الذي وجد نفسه عاجزًا عن تحويل "الوعود" التي قطعها للبعض إلى "أفعال"، وبات من المطالبين بانتخاب رئيس "كيفما كان".

أكثر من ذلك، تقول المصادر أنّ الحريري تمادى في دفاعه لدرجة ظهر من حيث لا يقصد بمظهر المدافع عن الرئيس السوري ​بشار الأسد​، والخائف على مصلحته بعد أن تراءى له وكأنّه "كبير الخدم" من منظور "حزب الله" وإيران. كلّها أمورٌ لا تفسير لها وفقاً للمصادر سوى بربطها بشكلٍ مباشر بسعي الحريري لإرضاء السعودية، قبل غيرها، من منطلق الرغبة بأن يبقى الممثل الوحيد لها في لبنان، في ظل المنافسة الشديدة مع أفرقاء آخرين، داخل تياره السياسي وخارجه.

البحث عن الدور...

في الختام، يبقى الأكيد أنّ الحريري، كما "حزب الله"، من مصلحته الحفاظ على الستاتيكو القائم في الوقت الراهن، نظراً إلى أنه ينتظر الشكل الذي ستخرج به التسوية السورية، لا سيما مع دخول العامل الروسي، ومن المتوقع أن يكون هناك تداعيات لحضور موسكو على البحر المتوسط على الملف اللبناني.

وسط كلّ ذلك، يبقى "البحث عن الدور" هو عنوان مرحلة "تقطيع الوقت" الحالية، وذلك لضمان "الدور" في أيّ "تسويةٍ" يمكن أن تأتي في المستقبل القريب أو البعيد...