ما ان لاحت في الافق بوادر الوصول الى تسوية معينة قد تؤدي الى الخروج من الشلل الذي يشهده لبنان على المستوى السياسي، حتى تناوب المعنيون على الانقضاض عليها من كل حدب وصوب، لتعلن ميتة حتى قبل ان تولد. وعلى الرغم من ان السياسيين هم الذين انجبوا هذه التسوية، الا ان "الملح والبهار" الذي اضيف اليها جعلها عقيمة الجدوى، ولا حاجة لها في الوقت الراهن، ولكن كل طرف من الاطراف عارضها لسبب مختلف وبقي الاجماع على انها لن تشكل الحل المنشود، اقله في الوقت الراهن ريثما تتضح الصورة الاقليمية بشكل اكبر.
بداية، لا بد من الاشارة الى ان هذه التسوية كانت حصيلة مشاروات مكثفة، افضت الى قبول رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون بها، قبل "تفخيخها" بلغم تعيين مدير عام جديد لقوى الامن الداخلي (تحديداً العميد عماد عثمان)، ولعل المستفيد الاكبر منها كان "تيار المستقبل" نفسه ورئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط. فالاول كان سيربح عودة العجلة الحكومية الى الحراك ليظهر بأنه المنقذ الدائم للطائفة السنّية ولمنصبها الاول في الدولة والحفاظ على حقوقها مصانة، والثاني عبر خطة ملف النفايات التي حمل لواءها ودق ابواب الجميع من اجل حلها.
مستفيد آخر من هذا الامر كان رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي نجح الى حد ما في سحب البساط من تحت "الحراك الشعبي" واخذ زمام المبادرة (ولو بدفعة من "حزب الله")، من خلال الحوار الذي يجري في ساحة النجمة، بحيث كان من شأن التسوية اظهار مدى محورية دوره في البلد، خصوصاً عند تعقد الامور وتفاقم الاختلاف في الآراء بين الاطراف.
من جهته، بدا رئيس تكتل "التغيير والاصلاح" الخاسر الاول من هذه التسوية، حتى قبل اضافة مسألة تعيين قائد لقوى الامن، لان التسوية لحظت ترفيع العميد شامل روكز الى رتبة لواء وليس تعيينه قائداً للجيش على غرار ما كان اتفق عليه في الاساس مع "تيار المستقبل"، وبالتالي تعتبر هذه الخطوة ناقصة سياسياً للعماد عون ولكنه قبل بها على مضض.
اضافة الى ذلك، فإن عودة العجلة الى الدوران في الحكومة، من شأنها ايضاً ان تظهر عون خاسراً، لانه طالب بأسس معينة لعودة مجلس الوزراء الى العمل ولم تلبّ طلباته، وبالتالي فإن خسائره السياسية من خلال التسوية اكبر من مكاسبه، لكنه كان يراهن على ما يبدو على "رياح التغيير" التي تلفح المنطقة وبدأت بوادرها بالتدخل الروسي العسكري المباشر في سوريا، وملامح التسوية في اليمن، للتعويض عما سيخسره.
وبدا رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة المتهم الاول من قبل الكثيرين في "تفخيخ" التسوية الاساسية التي تم الاتفاق عليها، انطلاقاً من رغبته في ترسيخ دوره في تيار "المستقبل" في ظل الانقسامات التي يشهدها هذا التيار من جهة، والضائقة المالية التي انعسكت على مؤسساته ونفوذه من جهة ثانية.
باختصار، يمكن القول ان اللاعبين اللبنانيين خسروا جميعاً في المبدأ اثر سقوط التسوية، لانها كانت كفيلة بالحفاظ على مخرج لائق لهم من مآزقهم الكبيرة، فيما العمل لن يتوقف من اجل اعادة التسوية الاصلية الى الحياة للحد من الخسائر من جهة، والحصول على مكاسب سياسية ومادية من جهة ثانية. ولكن الوقت ليس في مصلحة السياسيين، لان البديل هو ان يراوح البلد مكانه في كل الملفات ريثما تنضج صيغة الحل الاقليمي والتي قد تطول بضعة اشهر على الاقل، فيخسر الجميع بنسب متفاوتة، مكاسب كانت في متناولهم على الصعد السياسية والمالية في انتظار الحل الذي سيأتي معلّباً ومغلّفاً بموافقة اقليمية-دولية لمجمل المشاكل التي يعاني منها لبنان دستورياً، سياسياً، بيئياً، امنياً... حيث سيرضى الجميع بما سيتبلغونه وسيعملون بمضمونه لسنوات قليلة وفق ما اختبرناه عبر التجارب السابقة.