فجأةً، تبخّرت كلّ الإيجابيات دفعة واحدة، وسقطت "التسوية"، التي استُهلِكت إعلاميًا أكثر من اللزوم، في "المحظور"...
لم يعد رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون يرتضي السماع بعبارة "تسوية" لأنّ ما يطالب به، كما يقول، حقوقٌ مشروعة وليس "منّة" من هذا أو ذاك، وتنبّه رئيس المجلس النيابي نبيه بري إلى أنّ أزمة النفايات لا يضاهيها في الأهمية شيء، وبالتالي لا كلام عن صيغٍ وما شابه قبل الانتهاء منها.
يوحي ما سبق بأنّ التسوية دُفِنت قبل أن تولَد، ليس لأنّ وزراء الرئيس السابق ميشال سليمان و"حزب الكتائب" وبعض المستقلين أصرّوا على معارضتها، بل لأنّ البعض قرّر استبدال "التنازلات المتبادلة"، المطلوبة عادةً لإنجاح أيّ مسعى توفيقي، بـ"ابتزازٍ متبادلٍ"، كان كفيلاً بـ"الإطاحة" بالطبخة عن بكرة أبيها.
معارك خاسرة...
لا يُحسَد "التيار الوطني الحر" على موقفه. كثيرة هي المعارك "الخاسرة" التي خاضها في الآونة الأخيرة، لا لشيء إلا لأنّ "أخصامه" في السياسة يعملون على "محاصرته" ويرفضون تقديم أيّ "تنازلٍ" يمكن أن يُحسَب لمصلحته في نهاية المطاف.
عارض التمديدين الأول والثاني للمجلس النيابي، وعارض التمديدين الأول والثاني للقادة الأمنيين والعسكريين، لكنّها كلّها مرّت بكلّ سهولةٍ ويُسر. طرح نفسه مرشحًا لرئاسة الجمهورية، فتعامل معه الآخرون باستخفاف واستهزاء، وطرح مرشحه لقيادة الجيش، فرفضه الآخرون "نكاية بالجنرال"، رغم اعترافهم بكفاءته التي تؤهّله الحصول على المركز.
جرّب "الجنرال" ترجمة "معارضته" إلى أفعال، تنوّعت أشكالها وأساليبها. في التمديد للمجلس النيابي، لجأ للمجلس الدستوري، الذي لم يجتمع بتاتا في المرّة الأولى، وشرّع التمديد في الثانية. أما في ملف التعيينات الأمنية، فحاول فرضها بنداً أول على جدول أعمال الحكومة، لكنّ شيئاً لم يتغيّر، وحصل "أخصامه" على "هدية مجانية" أخرى يصوّبون من خلالها على "سبب التعطيل"، كما يردّدون بشكلٍ دائم.
لا مقايضة؟
مؤخراً، بدأ الحديث عن "تسوية" عبارة عن سلّةٍ متكاملةٍ، تقوم على ترقياتٍ قانونيةٍ لعددٍ من العمداء في الجيش، بينهم العميد شامل روكز، معطوفة على تفعيلٍ للحكومة وفتحٍ لأبواب المجلس النيابي. ورغم تحسّسه المعروف من عبارة "تسوية"، أبدى "التيار الوطني الحرّ" كلّ إيجابية إزاءها، بحسب ما تؤكد أوساطه، ولكنّها إيجابية بقيت حذرة، لأنّ التجربة علّمته أن لا يثق بأحد، نظراً للوعود التي تلقاها من هذا وذاك والتي بقيت حبراً على ورق.
سريعًا، بدأت بعض الملابسات المثيرة للريبة تطفو على السطح، بحسب هذه الأوساط، من انقسام "تيار المستقبل" على نفسه على خلفية هذه القضية، والذي تصفه بـ"المزعوم"، إلى هروبه إلى "حلفائه" عبر تحميلهم وزر الاعتراض، وصولاً إلى "اللغم" الذي قصم ظهر البعير، من خلال الإيحاء بأنّ الموافقة على التسوية مشروطة بتعيين مديرٍ عام لقوى الأمن الداخلي، والانقلاب بالتالي على معادلة "قائد جيش مقابل مدير عام لقوى الأمن"، تمامًا كما انقلب في السابق على معادلة "قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز قائداً للجيش مقابل عماد عثمان مديراً عاماً لقوى الأمن".
لا تقتنع أوساط "التيار" بما يُحكى عن أنّ "الجنرال" ردّ على تسوية "مفترضة"، مشيرة إلى أنّ الصحافة لم تخترع بطبيعة الحال البند-اللغم، بدليل أنّ أحداً لم يتطوّع لنفيه ونكرانه إلا بعد كلام عون، رغم أنه كان منشوراً قبل ساعاتٍ من ذلك، وهي تختصر الموضوع بالقول: "هو ابتزازٌ رخيصٌ يلجأ إليه الخصوم، وكأنّ ترقية العميد روكز هي جائزة ترضية على الجنرال دفع ثمنها، وهذا الثمن باهظٌ جداً، وهو يشمل مقايضاتٍ بالجملة، من القبول بآليةٍ حكوميةٍ لا تقوم على الإجماع، ما يوحي بأنّ تعنّت البعض برفضهم هو جزءٌ من السيناريو كذلك الأمر، إلى التشريع الذي يتخطّى الضرورة"، وتضيف: "فليتذكّر هؤلاء أنّ عون لا يخضع للابتزاز، ولا يقبل المقايضة، وهو القائل أنّ العالم قادرٌ على سحقه ولكنّه سيعجز عن أخذ توقيعه، ولعلّ هذا القول ينطبق على هذه الحالة أكثر من أيّ شيءٍ آخر".
مفصّلة على قياسه!
في المقلب الآخر، لا يتردّد "الآذاريون" في تحميل عون مسؤولية الإطاحة بالتسوية من أجل الاستمرار بسياسة التعطيل التي بات يتقنها، وكأنها ما يهوى ويحبّ أولاً وأخيراً. تقول مصادرهم أنّهم أصلاً لم يكونوا متحمّسين للتسوية نظرًا لتداعياتها المتوقعة على هيلكية وتراتبية الجيش اللبناني الذي يفترض أن يبقى خطاً أحمر، ولكنّهم مع ذلك انفتحوا عليها حتى لا يُقال أنّهم من عرقلوا الحلّ. لكنّ المفاجئ، بحسب هذه المصادر، كان تصرّف عون، "فالتسوية مفصّلة على قياسه، ولكنّه يريد الحصول عليها من دون تقديم أيّ مقابل". هي تستغرب كيف يقول أنّ الترقيات هي حقٌ مشروع، معتبرة أنّ هذا الأمر يشكّل دعوة غير مباشرة لكلّ العمداء المتقاعدين للعودة إلى المؤسسة العسكرية والمطالبة بـ"حقهم المشروع" بالترقية التي لم يحصلوا عليها.
لكنّ المفارقة الأبرز وفق المصادر "الآذارية" نفسها لا تقتصر على كون "الجنرال" رفع السقف عالياً بناء على تقارير صحافية، من دون أن ينتظر "الخبر اليقين" من المعنيّين، ولكنّها تتعدّاها لتصل إلى حديث "الجنرال" عن "الابتزاز"، في إشارة إلى "تيار المستقبل" بوجهٍ خاص. "يتهمنا بابتزازه للموافقة على التسوية، فيما هو يمارس الابتزاز بعينه، حين يهدّد بالانسحاب من الحوار إذا طارت هذه التسوية، وهي ليست المرّة الأولى التي يأخذ فيها هذا المنحى، فقد سبق أن هدّد بالانسحاب من الحوار، ثمّ عاد عن قراره بناءً على "وعودٍ" بإنجاز التسوية، في وقتٍ يفترض أن يكون الأمران منفصلين ومستقلين".
وفيما تدعو هذه المصادر "الجنرال" للذهاب وحلّ الأمور مع حلفائه قبل توجيه اللائمة على أحد، فصراعه مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري بات أكبر من أن يُبلَع، وعبارة "حليف الحليف" لم تعد كافية للتغطية عليه، تشير إلى أنّ إقرار التسوية "كما يريدها الجنرال" سيرتدّ سلباً على كلّ الاستحقاقات، "إذ حينها سيضع كلّ الملفات على بازار الابتزاز، وأولها الاستحقاق الرئاسي، فمن يضمن عندها أن لا يشترط انتخابه رئيساً للجمهورية حتى يسيّر شؤون الدولة، وهو الذي يعطّل الانتخابات الرئاسية أصلاً حتى يقبل به الجميع؟"
أزمة ثقة!
كلّ المواقف تُظهِر إذاً أنّ "التسوية" أصبحت في خبر كان، بعد أن وصلت إلى "الذروة" وشعر الكثيرون أنّ "الفرج" آتٍ. وعلى الرغم من أنّ "عرّابي" التسوية لم يستسلموا بعد وأنّ محاولات "إنعاشها" تكثّفت خلال الساعات الأخيرة، فإنّ "المطبّ" الذي وقعت فيه إن دلّ على شيء يدلّ على أنّ "أزمة الثقة" في الداخل اللبناني تتفوّق على كلّ ما عداها.
قد يقول قائل أنّ الانتخابات الرئاسية هي الحلّ، وقد يقول آخر أنّ التسوية الخارجية المأمولة هي التي سترسم خارطة الطريق. ولكن بين هذا وذاك، لا بدّ من تفاهمٍ داخلي حقيقي، تفاهم أقلّه على أنّ الجميع "شركاء"، وإن كانت عبارة "شراكة" باتت بحاجة لمن يفسّرها!