تنتظر الكثير من العائلات الجنوبية موسم قطاف الزيتون كل عام بفارغ الصبر.. والفرح معا، فموسم الخير والبركة، الذي يحل كام عام بين "التشرينين" الاول والثاني، يشكل مصدر عيشها ورزقها وهي تقاوم الفقر والعوز في ظل ضنك الحياة نتيجة الخلافات السياسية والازمات الاقتصادية المتلاحقة والركود والبطالة، التي "تخنق" انفاسها وتفرغ جيوبها.
فعلى امتداد مساحات واسعة من اراضي منطقة صيدا وشرقها بدء من المية ومية وحتى الصالحية ومجدليون وعبرا ووصولا الى عين الدلب والقرية وجنوبها من مغدوشة وطنوريت والحجة والمعمارية وسواها تغطيها اشجار الزيتون التي تعطي نحو ثلث انتاج الجنوب ككل من الزيت، وهي لا تزال تشكل مصدر عيش اساسي لمئات العائلات سواء تلك التي تمتلك هذه الكروم او التي تضمنها او حتى التي تعمل في القطاف فيها بالأجرة، حتى انها تطلق عليها لقب "شجر البقاء" في الارض، تماما كما تفعل مع "شتلة التبغ"، التي تسميها "نبتة الصمود".
داخل الكروم في قرى شرق صيدا يتجمع افراد العائلة حول اشجار الزيتون، يكاد يتحول موعد قطافهما الى "عيد" قروي، يلتقي فيه الجميع كل صباح، الذي يصادف في مثل هذه الأيام. كبارا وصغارا يشرعون في عملية حصاد الزيتون بنوعيه الأخضر والأسود حيث يستخدم الإنتاج كـ "مونة بيتية" على مدار العام حيث يوضع صحن الزيتون على مائدة الطعام كطبق رئيسي، كما يحول جزء من حصاده الى المعاصر لإستخراج زيت الزيتون.
غير ان المزارعين هذا العام، يشكون تراجع نسبة الإنتاج ويؤكدون ان هذا الموسم شحيح الانتاج مثله مثل العامين الماضيين، وقد كسر مقولة عن الاجداد "أن الزيتون بشكل عام سنة يكون جيدا وسنة أخرى شحيحا، والبلدة التي تنتج في العام 50 طنا من زيت الزيتون في الموسم الاول "الذهبي"، لا يزيد انتاجها في الموسم الثاني "الكساد" عن 20 طنا، ما أدى إلى تكبّد أكثر العائلات والمزارعين الذين يعتمدون على موسم الزيتون، خسائر مادية فاقت قدرتهم على تحمّلها، بينما حدد سعر "تنكة" الزيت ما بين 200 و225 الف ليرة لبنانية، وفق نوعية الزيتون الذي يباع الكيلو الواحد منه بما لا يقل عن 4 الاف ليرة.
موسم وكروم
في بلدة المية ومية شرق صيدا، اجتمعت عائلة بو سابا، حول اشجار الزيتون، ارتدى القطافون ملابس العمل، وهي أقدم ما يملكونه والتي لم تعد صالحة للبس في الاماكن العامة، لحظات قليلة ويفرشون اكياس "النايلون" الزرقاء الكبيرة او الخيش احيانا، فيختار المسؤول، الزيتونة الاولى التي يجب بدء قطافها، يوزع المهمات، الشبان يصعدون الى الشجرة بواسطة السلالم الخشبية ذات الوجهين، يقطفون الحبوب عن أغصانها العالية، فيما النساء والفتيات والاطفال ايام عطلتهم يقطفون حبوبها واقفين على الارض الى ان يتم جمعها ونقلها.
وسط اصوات القطاف، راحت "أم عبدو" تراقص الحبات على "صينية"، تقوم بغربلتها من بعض الأوراق التي تندس فيها، وتقول "الله بارك هذه الشجرة"، وقطاف الزيتون هو موسم البركة والخير وهو مصدر رزقنا ومونة المنزل معا"، قبل ان تضيف "كل العائلة تعمل في القطاف، والصغير يساعد الكبير بدلا من استئجار عمال و"فراط" ودفع نفقات مالية اضافية".
"أم عبدو" اكدت ان "ثمار الأشجار هذا العام شحيحة، ونخشى من امراض تصيب الزيتون عادة، ما زلنا في بداية الموسم وننتظر "شتوية" لتجعل حبيبات الزيتون اكثر اكتنازاً وتزيدها حجما وتغنيها زيتا، لكي يزداد انتاج الزيت"، موضحة ان زيتون الساحل يستمر قطافه من تشرين أول الى تشرين الثاني بينما في المناطق الجبلية تزيد المدة شهرا إضافيا عما عليه في المناطق الساحلية.
قطاف وفرز
في القطاف يستخدم العاملون الطريقة الكلاسيكية في قطف الزيتون التي تتمثل بهز الشجرة أو ضرب الغصون المثمرة بعصى تسمى "القضيب"، فتتساقط حبات الزيتون أرضا على مفرش من القماش أو النايلون حيث يسهل تجميعه، ولا تلحق ضربة "القضيب" أي آذى بحص الزيتون، بينما يعتمد آخرون على طريقة حديثة في القطف تتمثل باستخدام قطاقات بلاستيكية لها أسنان كبيرة شبيهه باسنان المشط حيث يتم تمشيط أماكن حمل الحبات على غصون الزيتون التي تتساقط أيضا على ذات المفرش.
وسط ذلك، تجلس النسوة، تحت الشجرة ينظفن الحبات من الاوراق والاغصان العالقة فيها ومن التراب الذي قد يخالطها ويرحن يعبئنها في أكياس الخيش البيضاء فتمتلىء كيسا بعد كيس، وترصف الى جانب بعضها البعض، حتى اذا ما قطفت الشجرة عن بكرة أبيها، تنقل الاكياس الى السيارة، لتنقل الى البيت وتنقل اكياس النايلون الى أسفل الشجرة التالية لتنظف من زيتونها الذي سيتحول زيتا او حبوبا خضراء مكبوسة في ما بعد.
وتؤكد "أم عبدو" خلال القطاف نسارع الى فرز الزيتون، اي حبات تذهب للعصر او للزيت وأيها للرص والاكل، فالحبة الصغيرة و"المضروبة" بدبغ او جرح تذهب الى اكياس الخيش المخصصة للمعصرة، والكبيرة والخضراء والناضجة تذهب الى الاكياس العائدة الى المنزل، أي أكياس الرصّ، وبعد فصلها، تغسل الحبات التي تعد للأكل في الماء ثم يبدأ رصها، تضرب حبة الزيتون بمطرقة خشبية حتى تتفسخ قليلا، ثم توضع في "مرطبانات" من الزجاج مع الحامض والماء والملح والحرّ، او مع زيت الزيتون، جزء كبير من حبات الزيتون المرصوص ينقع بالملح فقط ويترك معرض للهواء لعدة أيام ليصبح صالحا للأكل، فيما الزيتون المكبوس في المرطبانات يحتاج الى عدة أسابيع حتى يصير صالحا للاكل.
نوعية وكمية
وتقول العاملة ريتا شلهوب، وهي تحرك القضيب الذي تحمله باتجاه شجرة زيتون ممازحة "العصا توجع ويسمع الزيتون الكلمة فيسقط أرضا"، قبل ان تبتسم وتضيف "أن قطاف الزيتون لا يحتاج الى خبرة كبيرة، فالانتباه لقطاف الحبة هو الاساس، والاهم ان يبدأ في موعده، فقطف الزيتون قبل ان ينضج يؤدي إلى انخفاض في كمية الزيت، فضلا عن طريقة القطف، حيث هناك من يستعمل العصي وهذا يضر بـ"حمل" الشجرة للسنوات القادمة، ناهيك عن طريقة جمع الثمار بحيث لا يعصر "الجرجير" مع باقي الزيتون، مشيرة انه رغم ذلك فان بعض اصحاب الكروم باتوا يفضلون "تضمينها" الى اناس اخرين مقابل مبلغ مال معين تفاديا للتعب والوقوع في الخطأ والخسارة.
وتضيف: تتفاوت نوعية الزيتون وإنتاج زيته وفقا للجودة والنوعية والحجم، فالحبة الكبيرة تحول للأكل وسعر الكيلو يتراوح بين اربعة الى ستة الاف ليرة لبنانية، بينما صغيرها يحول لإستخراج الزيت وكل مئة كيلو من الزيتون الان ينتج 16 ليترا من الزيت، قد يقل بعد الشتوية الى سبعين او ستين، فيما سعر صفيحة الزيت لا يقل عن مئتي الف ليرة لبنانية.
داخل الكروم، يكون إبريق الشاي وركوة القهوة وزوادة تفيض بخير الأرض، رفيقة المزارعين في ساعات القطاف التي تمتد من بزوغ الفجر حتى الظهر، يقول ديب قزي، ان شجرة الزيتون بركة العائلة، وقطافها كما قطاف نتاج العمل الطيب، وهذا ما تربينا عليه وربينا عليه اولادنا، بأن يتعلقوا بأرضهم ويتعلموا من شجرة الزيتون التجذر في الأرض والشموخ والهامة المرفوعة والعطاء من دون حساب"، منتقدا "من يقومون باقتلاع اشجار الزيتون المعمرة من مكانها ونقلها الى حدائق القصور والفيلات لزرعها هناك للتباهي بها"، واصفا هؤلاء كـ"من يقتلع انسانا من ارضه".
داخل المعصرة
ومن الكروم الى المعاصر، تتداخل رائحة الزيتون والزيت وتفوح زكية في كل شيء، في أرض المعصرة الاسمنتية وآلاتها وجدرانها وحتى أجساد العمال فيها، ويروي صاحب معصرة زيتون في عين الدلب جورج الياس جبور، رحلة العصر التي تبدأ من الجرن بوضع 250 او 500 كيلو، فيفصل الورق علن الحبات بواسطة شفاط هوائي، ثم ينتقل الى الكسارة الحجرية، وبعد الطحن يتمّ وضع الزيتون في دوائر من القش والتي توضع بدورها على الضاغط الآلي حتى خروجه فتنز الزيت نزاً، فيمتلئ الجرن بالزيت المخلوط بالماء، بعدها يتم وضع السائل في جرن كبير، يفصل فيه الزيت عن الماء، فينزل الزيت الاخضر من جهة، والخليط الاحمر المتبقي من جهة ثانية، فيعبأ الزيت في غالونات بلاستيكية او "تنكات" وقد حملت هذا الاسم منذ كانت تصنع من التنك، ولكنها اليوم مقياس للكمية ويبلغ حجمها 16 ليترا، مشيرا الى الفارق بين عصر الزيتون في بداية الموسم وذروته، الان 100 كيلو ينتجون تنكة زيت بينما مع هطول اول "شتوية" يصبحون تنكة ونصف وما فوق، موضحا ان عملية العصر تستغرق 15 دقيقة وتباع التنكة ما بين 200-225 الف ليرة لبنانية.