أظهرت الصواريخ التي اطلقت من بحر قزوين نحو الرقة وريف إدلب وحماه، جديّة الحرب على الإرهاب بالمفهوم الروسيّ. ليس ثمّة ميوعة كما ظهرت في الرؤية الأميركيّة بالحدّ الأقصى واستثمار من باب ما تمّت تسميته بدبلوماسيّة الضباب في زاوية الرؤية نفسها. احتشاد العسكر الروسيّ بنوعيّته من الجوّ وخلف الحجب والبحار، واحتشاد الجيش السوري مع حلفائه على الأرض، في التلازم والتكامل ما بين البرّ والجوّ، قلب المعاني السياسيّة المتراكمة بأسرها.
ليست الحرب بهذا المعنى عسكريّة ببنيويّتها، بل هي في جوهرها معركة كسر عظم مع قوى إرهابيّة متوحّشة. ان المصلحة الروسيّة كما الصينية والأوروبيّة تقتضي بأن تتكامل عناصر الهجوم في الداخل السوريّ، وقد غدت المعركة على الأرض أمّ المعارك بعدما تمّ الانتقال من الدفاع الاستراتيجيّ إلى الهجوم الاستراتيجيّ.
وعلى الرغم من تشييع نظرية فحواها بأنّ الأميركيين سيضطرون للتسليم بالدور الروسيّ، وهذا في النهاية رائج، ولن يدخلوا حربًا معهم كرمى للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، كشفت بعض المعلومات بأنّ الأميركيين يحاولون تمويل بعض المنظمات التكفيرية للتحريض على استمرار الاستنزاف، وفي الوقت عينه، تخشى بعض المصادر، تحريك الأرض اللبنانيّة من بيروت إلى الحدود الشماليّة، بعنصرين هاميّن وكبيرين: عنصر الحراك المدني، الذي خرج من سمته الاجتماعيّة إلى رؤية خطيرة تهدف إلى إسقاط النظام، وإسقاط النظام ولو بالإطار النظريّ يشي بمشيئة الفوضى الخلاّقة أو الهدّامة من قلب بيروت، وعنصر الحركات الإسلامويّة في الشمال وصولاً إلى عرسال وجرودها، وهي تتأهّب لاختراق الاستقرار بتظاهرات احتجاجيّة على التدخل الروسيّ في سوريا. ولذلك تتريّث بعض المصادر بإطلاق الأحكام السريعة حول ما جرى أمس في بيروت من مواجهات، لكنّها تضعها في إطار ما بدأ يعدّ للساحة اللبنانيّة مقابل السّاحة السوريّة. والمعروف تاريخيًّا بأنّ لبنان لا يزال خاصرة سوريا المرتخية، وفيها تتجمّع عناصر التحريك والاستعمال والاستهلاك بالشقّ المدنيّ والشقّ الإسلامويّ.
ما يجب فهمه بأنّ عناصر التأزيم منغرسة في لبنان، وبدأ انعراسها يشتدّ أكثر فاكثر مع التحوّل العميق والشديد من الدفاع الاستراتيجيّ إلى الهجوم الاستراتيجيّ، والذي يسوغ توصيفه بالهجوم الاستراتيجيّ-التكوينيّ، حيث منه ستنبثق حقبة جديدة لسوريا مليئة بحلّ سياسيّ جذريّ قائم على شراكة وطنيّة بين المكوّنات السوريّة، والذي يحفظ لكلّ مكوّن كرامته ودوره كحيّز ووجود تاريخيّ قائم بحدّ ذاته. استفاد الثنائيّ الذكيّ والصّلب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، من إقرار الاتفاق الإيرانيّ-الدوليّ، فدخلا من بوابته إلى العمق السوريّ، ولا يزال كثيرون على ظنّ بأنّ الإيرانيين على خلاف مع الروس في حين أن المعلومات الأخيرة أكّدت التنسيق والتعاون التامين بدليل حراك اللواء قاسم سليماني في الداخل السوريّ مع حرسه الثوريّ، والتوازي في المعركة ما بين الجوّ والبرّ. والدليل الآخر حديث الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله التلفزيونيّ الأخير ليس في صيغته الإيرانيّة بل بصيغته اللبنانية-السوريّة-العربيّة، وفيه قرأ الدخول الروسيّ أرض الشام العنوان الجوهريّ للاتجاه إلى الحسم.
هنا وبتلك الرؤية الروسيّة سيموت التاريخ، ولكنّ تاريخًا آخر سيولد من الميدان، وذلك عبر ضرورة ربط استراتيجيّ محكم بين الحدود السوريّة اللبنانيّة والحدود السوريّة العراقيّة، والحدود السوريّة التركيّة، لتأمين شبكة أمان باتجاه الساحل اللبنانيّ-السوريّ، وفي الوقت عينه باتجاه ربط العاصمة دمشق بالمحافظات وصولاً إلى الحدود مع الأردن والجولان. وتعتقد بعض المصادر بأن المعارك في إدلب وسهل الغاب، ستفتح الطريق باتجاه حماه وحمص، كما باتجاه حلب واللاذقيّة. ومعركة تدمر ستكون المنطلق لفتح الطريق نحو الحدود العراقيّة. المعركة بحدّ ذاتها استباقيّة، وبحسب مصدر سياسيّ مخضرم، يجب أن تتحصّن الجبهة اللبنانيّة بدءًا من الشمال وصولاً إلى البقاع الشماليّ قبل استثمارها كورقة ضغط على الداخل السوريّ. ويعتقد هذا المصدر بأن انفراط الحوار مضاف إليه غليان الحراك الشعبيّ سيفتح ثغرة في الداخل اللبنانيّ مكشوفة نحو الآفاق السوريّة. ويبدي هذا المصدر قلقه بأن تكون الأرض اللبنانية خصبة لفوضى جديدة تنفجر تباعًا وتدريجيًّا، وتعيد إحياء الفتنة المذهبيّة، وهذا ما يجب تداركه.
الأرض اللبنانيّة عادت وظيفيًّا للاشتعال. وظيفة الاستقرار بالتوصيف الأميركيّ بطلت، وانتهت مدّة صلاحيّتها على مختلف الأصعدة، الطائف بالمعنى السياسيّ مات، وأبلغ الأميركيون اللبنانيين والسعوديين بموته. الفوضى اللبنانية باتت مطلوبة كحالة ضغط موجعة داخليًّا ولكنّها ستكون البداية لحسم واضح ستكون الغلبة فيه واضحة. كلّ تلك الرؤى مطروحة للنقاش والتبصر وأخذ الحذر. الأميركيون والسعوديون ضاقت السبل بوجوههم، ولكنّ التموضع الأميركيّ يجب قراءته بالعمق كمعطى سيدفع لبنان من جديد ثمنًا باهظًا قبل أوان الحسم.