في الرابع من أيلول الماضي، نظّم "التيار الوطني الحر" تظاهرة حاشدة في ساحة الشهداء، ومنذ ذلك الحين تركّز حديث "العَونيّين" على تظاهرة قصر بعبدا، خاصة في الأيّام القليلة الماضية، حيث كثرت التحاليل بشأن مضمون كلمة رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون، مع توقّع أن "يكون ما قبلها غير ما بعدها"، وأن تحمل مواقف تصعيديّة كبيرة تشلّ الدولة نهائياً، ردّاً على الضربات السياسية التي وُجّهت إلى "الجنرال"، بدءاً بتجاهل مُعارضته للتمديد لمجلس النواب لمرّتين مُتتاليتين، مُروراً برفض إنتخابه رئيساً، وُصولاً إلى التمديد لقائد الجيش مرّتين وإسقاط مُرشّح العماد عون لهذا المنصب، إلى آخره. لكنّ المفاجأة التي حملتها تظاهرة يوم الأحد الحاشدة، كما تظاهرة ساحة الشهداء الأخيرة، أنّها لم تحمل مواقف جديدة أو تصعيديّة من جانب الرئيس الفخري للتيّار. فما سبب ذلك؟ النظريّات التحليليّة مُتعدّدة ومُختلفة، وأبرزها:
أوّلاً: إنّ العماد عون لا يرغب بكسر الجرّة نهائياً مع خُصومه حالياً، لأنّه يُدرك أنّ وُصوله إلى منصب الرئاسة لا يُمكن أن يتمّ في ظلّ عداوة كاملة مع باقي المُكوّنات السياسيّة الأساسيّة في البلاد، وهو يحتفظ بأمل ولو صغير بإحتمال التفاهم، ما يجعله يحتفظ بشعرة مُعاوية، أقلّه حتى إشعار آخر.
ثانياً: إنّ العماد عون القادر على مُمارسة الضغط على خُصومه السياسيّين، وعلى منع إنتخاب رئيس جديد للجمهورية بمساعدة من "حزب الله"، غير قادر على قلب الطاولة على الجميع من دون التنسيق مع "الحلفاء"، حيث أنّ أيّ إسقاط للحكومة بشكلٍ نهائي لا يُمكِن أن يتم من دون "ضوء أخضر" من قبل "حزب الله"، ومن دون تغطية إقليميّة بهذا الصدد.
ثالثاً: إنّ العماد عون يرغب بإبقاء قدراته عالية على مستوى المُناورة والضغط والمُساومة السياسيّة، وهو لا يُريد إستخدام كل "الأوراق" التي يملكها دُفعة واحدة، خاصة وأنّ الفريق السياسي العريض الذي ينتمي إليه يُراهن على تغييرات جذريّة على مُستوى التوازنات في المنطقة بفعل التدخّل العسكري الروسي المُباشر في سوريا، ما يجعل "الجنرال" يدرس بدقّة وبتريّث التوقيت الأفضل لأيّ تحرّك تصعيدي كبير قد يُقدم عليه، خاصة وأنّ الجمهور "العَوني" لم يعد قادراً على تقبّل خطابات عالية السقف من دون أيّ نتائج ميدانية تُذكر.
رابعاً: إنّ العماد عون يخشى من أن يُؤدّي أي تصعيد شامل من قبله، إلى عكس النتائج المرجوّة، بحيث أنّ شلّ الحُكم نهائياً قد لا يقود إلى مؤتمر تأسيسي، ولا إلى توافق على قانون إنتخابات نيابيّة جديد يُعيد صياغة السلطة السياسيّة كما يرغب، بل ربما إلى إستلام الجيش اللبناني السُلطة في إجراء شبيه بما حصل في مصر، وذلك عبر القيادة الحالية التي لا تُعتبر قريبة من "الجنرال".
خامساً: إنّ العماد عون إستجاب لتمنيّات قوى حليفة تمنّت عليه ترك الباب مفتوحاً، ولو جزئياً، أمام فرصة تسوية ربع الساعة الأخير بالنسبة إلى موضوع إبقاء العميد شامل روكز، قائد فوج المغاوير الذي يُفتَرض أن يُسلّم منصبه لخلفه العقيد الركن مارون القبيّاتي في بحر هذا الأسبوع، في الخدمة العسكريّة.
في الختام، من المُمكن أن يكون أيّ إحتمال من الإحتمالات المذكورة أعلاه صحيحاً، أو أن تكون كلّها غير صحيحة، لكنّ الأكيد أنّ "الجنرال" لم يرفع وتيرة تصعيده المُعتمدة منذ مدّة، والتي إنعكست جُموداً وشللاً على مستوى كل من السلطتين التنفيذيّة والتشريعيّة، إلى جانب إفشال جلسات إنتخاب الرئيس. والأكيد أيضاً أنّ الوضع الداخلي غير مُقبل على أيّ إنفراجات داخليّة واسعة في المُستقبل القريب، في إنتظار تغييرات مُهمّة على مستوى المنطقة، أكانت سياسيّة أم عسكريّة، وكذلك في إنتظار تحوّلات داخليّة كبيرة على مستوى التحالفات السياسيّة أو التوازنات القائمة.