قبل أسابيع، مع بروز نجم الحراك المدني الاحتجاجي على الوضع "الكارثي" الذي وصلت إليه البلاد، حاول السياسيون "ركوب موجته"، فتنافسوا على إعلان "الولاء" و"البيعة" له، وتبنّي مطالبه بالجملة وكأنّها مطالبهم أولاً وأخيرًا...
لكنّ هذه "التمثيلية" لم تدم فترة طويلة. مع تظاهرة يوم الخميس الماضي، تبيّن أنّ "قراراً" اتّخِذ على مستوى كبير بـ"شيطنة" الحراك تمهيدًا لـ"إنهائه"، قرارٌ تأكّد أكثر مع ردود الفعل التي توالت، من قبل "المتعاطفين السابقين" مع الحراك.
ولّى زمن "المهادنة"...
رئيس الحكومة تمام سلام "حزينٌ" على الحراك، لأنّه، على حدّ تعبيره، يسيء إلى نفسه، وقد نقل عنه مقرّبون منه قوله أنّ القيّمين على الحراك هم من "طلعت ريحتهم" ويجب محاسبتهم على ما يفعلون. ولا يبدو سلام "الحزين" الوحيد وسط هذه "المعمعة"، إذ يشاركه في الحزن كثيرون، وفي مقدّمهم رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط، الذي كان أول من "تبنّى" الحراك وأول من "تنصّل" منه كذلك الأمر، واصفًا إياه بـ"المشبوه".
ويُعتبَر موقفا سلام وجنبلاط "الصريحان" و"الواضحان" نقلة نوعية في المواقف من الحراك، وفقاً لمصادر سياسية متابعة، خصوصًا أنّ الطبقة السياسية كانت طيلة الفترة الماضية تعتمد سياسة "مهادنة" إزاء الحراك، لدرجة أنّها كانت تردّ على "الشوك" الذي يرميها به بـ"تعاطفٍ" أشبه بـ"الورد"، ولو أجمع المراقبون على أنّه "مزعوم" لا غاية له سوى احتواء الحراك والالتفاف عليه بشكلٍ أو بآخر.
ولعلّ المفارقة في الموضوع تكمن في أنّ "الانعطافة السياسية" إزاء الحراك تترافق مع تصعيدٍ أمني وقضائي غير مسبوقٍ إزاءه، بدأت تجلياته تظهر بوضوح منذ تظاهرة يوم الخميس الماضي. تلفت المصادر إلى أنّ "استنفار" القوى الأمنية وصل إلى "الذروة" خلال هذه التظاهرة، التي كان واضحاً من بدايتها أنّ التعامل معها لن يكون إلا بـ"الشدّة"، فكانت كلّ أدوات "القمع" جاهزة وحاضرة للاستخدام، وهو ما حصل، وتشير إلى أن الأمر بدا أكثر وضوحًا مع التوقيفات التي حصلت والتي بقيت سارية المفعول بعد انتهاء "يوم التظاهر الطويل" بخلاف كلّ المرّات السابقة، حيث كانت السلطات دائمًا تخضع لـ"تصعيد" المتظاهرين، وترضخ لـ"ضغوطهم"، فتطلق الموقوفين شرط إخلاء الساحات، وهو ما لم يحصل هذه المرّة.
حراك "مشبوه"؟!
إن دلّت هذه "النقلة النوعية" سياسيًا وأمنيًا وقضائيًا على شيء، فهو على أنّ السلطة السياسية اتخذت قرارها بوضع حدّ للحراك بعد أن أصبح "مشبوهًا" من وجهة نظرها في الكثير من محطاته وحيثياته، علمًا أنّ هذه "الشبهات" ليست "وليدة اللحظة"، وقد طُرِحت الكثير من "علامات الاستفهام" حول الحراك منذ اليوم الأول، سواء لجهة افتقاده لقيادةٍ فاعلةٍ وواضحةٍ، أو لجهة توسّع مطالبه بشكلٍ كبيرٍ ما أبعده عن إمكانية تحقيق أيّ خرقٍ يمكن أن يُبنى عليه، أو لجهة أعمال الشغب التي رافقت الكثير من محطاته وغسل القيّمين عليه يديهم منهم، متذرّعين بوجود من أسموهم بـ"المندسّين"، في تعبيرٍ لم يسبق استخدامه في تاريخ المظاهرات في لبنان.
وإذا كانت المصادر تشير إلى أنّ كلّ هذه الانتقادات بقيت حبرًا على ورق، ولم يتعامل معها الحراك بالجدية المطلوبة، مثلها مثل الاتهامات التي لم يتردّد البعض في توجيهها لهم بخدمة أجنداتٍ أجنبيّة هنا أو هناك، وهو الاتهام الذي ثبت تاريخيًا أنّه الأرخص والأسهل على الإطلاق، إلا أنّها ترى أنّ ما زاد الطين بلّة أنّه لم يعد يحظى بأيّ "غطاءٍ" حزبي أو سياسي، بعدما "عادى" الجميع دفعةً واحدة بإصراره على شعار "كلن يعني كلن"، فلم يعد يمكن لقوى الثامن من آذار "استغلاله" للوصول إلى "المؤتمر التأسيسي" الذي تطمح إليه، ولم يعد يمكن في المقابل لقوى الرابع عشر من آذار القول أنّ "حزب الله" يقف وراءه لزعزعة الاستقرار في البلد.
السلطة ربحت؟
هكذا، تقول المصادر، ساعد "الحراك" من حيث لا يدري معارضيه في "الانقلاب" على موقفهم منه، بل "التكتّل" في مواجهته بأيّ شكلٍ من الأشكال، فـ"حزب الله"، الذي بدا في الأيام الأولى "متحمّسًا له" عاد ونأى بنفسه عنه كون قيادته "مجهولة"، ومثله فعل "التيار الوطني الحر" الذي "تبنّاه" للوهلة الأولى لكون شعارات الحراك هي أصلاً شعاراته، ثمّ عاد واصطدم بإصرار القيّمين على الحراك على وضعه في خندقٍ واحدٍ مع الفاسدين والسارقين، في حين اعترض "تيار المستقبل" و"حركة أمل" و"الحزب التقدّمي الاشتراكي" على "حصر" الاستهداف بهم.
من هنا، ترى المصادر أنّ السلطة السياسية قد تكون كسبت ظاهرياً الجولة الأولى من الكباش مع الحراك المدني، فسواء كانت الانتقادات والاتهامات التي توجّهها له صحيحة أم ملفّقة كما يقول منظّرو الحراك، إلا أنّها استطاعت، وفقاً للمصادر، أن تحرفه عن بوصلته الحقيقية وأن تضعه في موقف المُحرَج والمُربَك، بعدما أظهرته بمظهر المعتدي على القوى الأمنية وعلى الأملاك العامة والخاصة، وبعدما ضبطته مشاغبًا ومتمرّدًا على الدولة ومؤسساتها.
بنتيجة ذلك، أظهرت الدولة أنّ الحراك المدني يفتقد للمدنيّة في مكانٍ ما، من خلال موجات الشغب التي حصلت، وصاحب فكرٍ إلغائي في مكانٍ آخر، بدليل رفضه مجرّد "التفاوض" مع أركان السلطة، وكأنّ المطلوب إطالة أمد الأزمة لا حلّها، وبالتالي أوحت بأنّه غير مؤهّلٍ لاستلام البلد مكان الدولة، بعد أن عطّل كلّ مشاريع الحلول التي اقترحتها للأزمات من دون أن يطرح البديل، وبعد أن عجز عن مجرّد اختيار قيادةٍ واضحةٍ ومعلومةٍ له تستطيع أن تنطق باسمه وتنسّق مع الدولة تحت ستاره.
المعركة مفتوحة..
ولكنّ "ربح" هذه المعركة لا يمكن أن يرتقي لمستوى "الانتصار" بأيّ شكلٍ من الأشكال، تقول المصادر، التي تشدّد على أنّه حتى لو صحّ أنّ الحراك "طلعت ريحته" كما يحلو للطبقة السياسية أن تردّد، فهذا لا يعني أنّ الدولة "بريئة"، خصوصًا أنّ ممارساتها السابقة والحالية واللاحقة هي التي تؤمّن النجاح لأيّ حراكٍ من أيّ نوعٍ كان، سواء كان عفوياً أو منظماً أو مدبّراً، بسببها هي أولاً وأخيراً، هي العاجزة عن تحمّل الحدّ الأدنى من مسؤولياتها، والتي ترزح البلاد بسببها تحت فراغٍ رئاسي منذ أكثر من 500 يوم، وتعجز حكومتها عن مجرّد الانعقاد ولو لترقيع فضيحةٍ بحجم أزمة النفايات، وتتجاهل قضايا بحجم الوطن على غرار قضية العسكريين المخطوفين...
نعم، قد تتمكّن هذه الدولة من "إحباط" حراكٍ من هنا أو هناك، بغضّ النظر عن طبيعة هذا الحراك ونواياه، تماماً كما أجهضت في السابق الكثير من الحركات الاعتراضية بوجهها، ولكنّها مهما فعلت لن تتمكّن من تغيير حقيقة أنّ "ريحتها طالعة" بالفعل، وأكثر!