من تابع ليتورجيا الكنيسة الأرثوذكسيّة في الكثير من أعيادها السيديّة-التاريخيّة، اكتشف ومن دون زيغ ولبس بأنّ القالب الليتورجيّ مسكوب من التاريخ وأحداثه، ومنحوت بسياق تبرز فيه الكنيسة بركتها للملوك المواجهين للبرابرة. ليست الكنيسة من هذه الناحية، وبالمطلق، كنيسة السماء. بهاؤها بتوقها إلى فوق، ويتكثّف البهاء أكثر بذوق الكثيرين من المؤمنين وبالكثير من نواحيها أنها مائدة السماء، والمسيح خبزها. لكنّ الجزء الكبير منها أنها كنيسة التاريخ، كنيسة اللحم والدم بكلّ النوازع البشريّة والسياسيّة والعقائديّة. لم تنفصل الكنيسة يومًا عن المسرى التاريخيّ، حسبها أنّها تقوله في عيد رفع الصليب، وتكفّر بدورها كلّ من أشرك في العقيدة، وقال قولاً متنافيًا مع جوهر إيمانها كما حصل مع آريوس الإسكندريّ. تكفي حرب الأيقونات وقد انتصرت في سياق تاريخيّ امتلأ بالدماء المهراقة من أجل العقيدة.
... الأرثوذكس يجيئون من ذاتيّتهم بغضب الحقّ وليس بعسف الظلم، والمحبّة بجوهرها تغضب بوجه الظلم إن استفحل وأنشب أظفاره وكشف مخالبه وكشّر عن أنيابه. لقد جدل المسيح سوطًا ودخل هيكل أبيه وطرد الباعة والصيارفة، فكيف إذا كنّا أمام تنظيمات تكفيريّة تنهش لحوم البشر وتبقر بطونهم وتقطع رؤوسهم وتخطف ناسهم؟ يزيّن لكثيرين ممن عاشوا ويعيشون تلك اللحظات القاسية والعنيفة، بأنّ ميوعة بعضهم بهذه الصورة المكشوفة بالمعنى الروحيّ والمستهلكة بالإطار السياسيّ المبرمج بات أكثر فتكًا من رماح وسيوف التنظيمات التكفيرية. من هذه الزاوية يقرأ موقف متروبوليت المكسيك أنطون الشدراوي في حديثه التلفزيونيّ في تصويبه النقاش وتبويبه السياق أمام التحريف المرتضى من بعضهم لكلام رئيس دائرة العلاقات بين الكنيسة والمجتمع في الكنيسة الروسية المتقدم في الكهنة فسيفولد تشابلين واستعماله بالحصريّة السياسيّة لمواجهة روسيا في سوريا. وقد صبّ موقف الشدراويّ، في رؤية استكماليّة لما تمّ إظهاره غير مرّة من صحيفة "النشرة" من أنّه لا توجد مشكلة أرثوذكسيّة-سنيّة، بل توجد مشكلة أرثوذكسيّة في المطلق تجاه من صمتوا أمام من انتهكوا حرمة الأديار والديار، وهتكوا حجب المقدسات وأحرقوا الكنائس، ودنّسوا الأيقونات، وخطفوا راهبات ومطرانين، وقتلوا كهنة، وسبوا النساء، وقطعوا الرؤوس، وبقروا البطون. أساس المشكلة الصمت، والصمت في هذا المقام خطيئة عظمى، بإطباقه الغليظ بالتغطية والتعمية، فلماذا خرقوا الصمت ووقفوا غاضبين أمام كلام للمتقدم في الكهنة الأب شابلين، لم يعلن فيه بانّ الحرب مقدّسة، بمعنى أنّه لم يبرز القيمة العقيديّة للتقديس بقدر ما حاول إظهار الهالة الأخلاقية للحرب على هؤلاء وهي كذلك. لم يحصر التوصيف المسبَغ على معنى الحرب في كلام الرجل فقط، ولكنّه التوصيف الأخلاقيّ المتشعّب والمتّسع بحدود كبيرة في الأدبيات الجامعة بين المسيحيّة والإسلام الشّاجب والرافض للإرهاب، من الأزهر الشريف إلى موسكو.
وقبل أن يطلق متروبوليت بيروت للروم الأرثوذكس الياس عودة موقفه الشهير أصدرت مجموعة من الأرثوذكسيين وثيقة أو عريضة لا فرق تدين فيه الحروب المقدّسة، "معلنين رفضهم لإقحام المشاعر الدينيّة في خدمة المصالح السياسيّة كما رفضهم اضفاء الشرعية الدينية على مواقف الدول وتحركات جيوشها والتنظيمات المسلحة، وتبرير الحروب والعمليات الإرهابية باسم الدين". ودانوا، تاليًا، "إقحام ذريعة حماية المسيحيين تحقيقا لأهداف قومية او سياسية، كما جاء في دفاع البعض عن التدخل العسكري الروسي في سوريا". فمن نوافل الأمور أن يطرح السؤال على منظمي تلك الوثيقة وموقعيها: أين كنتم في لحظات الحرج والشدّة التي تألم منها مسيحيو وادي النصارى ومحردة وحمص وكسب والحسكة وقرى شمالي نهر الخابور وحلب وبعض من دمشق وريفها وحلب؟ لماذا وكما قال المطران الشدرواي، لم تقفوا وتنتفضوا رفضًا للجور والقتل والخطف؟ إلى أن قال المطران عودة ما حرفيّته: "الكنيسة لا تبارك الحروب ولا تقول عنها أنها مقدسة، أي لا تقدس الحروب ولا تقبل بهذا القول. كل كنيسة يجب أن تكون هكذا إذا كانت تعلم تعليم الرب أو إذا كانت تسمع كلامه. لهذا السبب نحن الأرثوذكسيون، وبالأخص في انطاكية، فيما نتألم ونطرد من بيوتنا ويشنع بنا، لا نقاتل أعداءنا"، ويشاء القول هذا أن ينزع عن الكنيسة الروسيّة جوهرها المسيحيّ الإنجيلي المكنون في الأدب الروسيّ العظيم مع فيودور دوستويفسكي وفلاديمير سولوفيوف وسيرافيم سيروفسكي. إذًا السؤال الذي يطرح على المطران عودة وببساطة كاملة: هل يجوز الصمت أخلاقيًّا أمام كل تنظيم تكفيريّ يقتل الناس، ولماذا اللجوء إلى تكفير كنيسة أرثوذكسيّة لها موقفها القيميّ والأخلاقيّ الصارم تجاه معاناة الأرثوذكس المشارقة كما لها تاريخها العميق معهم؟ هل المطلوب من أهل وادي النصارى أو محردة الذين شنّع بهم لحظة احتلال المسلحين لقلعة الحصن أن يسلموا قراهم إلى هؤلاء من دون مقاومة؟ أليست مقاومة هؤلاء واجبًا أخلاقيًّا بكلّ ما للكلمة من معنى؟
بهذا المعنى ثمّة خطّة بدأت تتوضّح معالمها بشخصياتها، والخطّة تتفرّع باتجاهات عديدة جوهرها قتال روسيا في سوريا من أرض لبنان. إنّه التحالف الأميركيّ-السعوديّ المتكوّن بعناصر إسلاميّة منها ما هو ليبراليّ كـ"تيار المستقبل" ومنها ما هو تكفيريّ كـ"هيئة علماء المسلمين"، وعناصر مسيحيّة تتموضع في هذا الفلك، تستهلك العناوين اللاهوتيّة وهي غير دقيقة لافتعال ضجيج كبير في الساحة الأرثوذكسيّة يشي بانقسام حادّ وعموديّ في هذه الدائرة. وتحذّر بعض المعلومات من عدم الوقوف أمام العبارات الواردة في سياقها "الأخلاقيّ-القيميّ"، بل الغوص في عمقها الدفين، فهو بيان له هدفان دقيقان يعمل عليهما:
1- محاصرة البطريرك الارثوذكسي يوحنّا العاشر يازجي، تحت ستار أنّه يعبّر عن الرؤية السوريّة للصراع، وخطورة المحاصرة أنّها قد تقود إلى عزله وحشره، وهذا أخطر ما يمكن أن تواجهه الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة.
2- فصل لبنان عن سوريا، في نطاق البطريركية الأنطاكية الأرثوذكسيّة، وهذا مسعى يقوده الأميركيون والسعوديون والقطريون بوجه الروس، بواسطة شخصيات أرثوذكسيّة لبنانيّة وقعت الوثيقة، ومنها من ليس لها علاقة بالكنيسة الأرثوذكسيّة. وتحذّر بعض الأوساط من عدم التساهل في قراءة ما هو حاصل وأخذه على محمل الجديّة الفائقة، والأمر ليس مطروحًا في سياقه على الأرثوذكس بل مطروح على رئيس تكتّل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون بوصفه الزعيم المسيحيّ المشرقيّ، وهو المحبّ للكنيسة الأرثوذكسيّة من خلال علاقته العريقة بالكثيرين منها.
الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكية ليست في قلب الحدث. وهناك من لا يريدها أن تكون في قلب الحدث. وهناك من يشاء إخراجها من سياقها المشرقيّ إلى سياق متغرّب صحراويّ قاحل وقاتم، ليس من تماس بينها وبينه. والوجع أن يعلو الصراخ في لحظات الإنقاذ بحرب لها طابع استثنائيّ ليس في إطار القراءة الروسيّة لأمن موسكو ولكن في إطار ما يجب أن نستثمره كعملية إنقاذ من براثن هؤلاء الوحوش آكلي لحوم البشر.
الحرب على الإرهاب أخلاقية. والكنيسة الأرثوذكسيّة التي ينطق باسمها المجمع المقدّس برئاسة السيد البطريرك، أوضحت هذا الأمر وهي معنية بأن تكون في قلب الحدث، لنبقى من خلالها شهودًا في مشرقنا العربيّ شهودًا للمسيح المنتصر على الموت بظفر القيامة وضيائها الساطع.