لم يخترق الحوار في ساحة النجمة الجمود السياسيّ المكتنف البلد. وحدها النفايات المتراكمة على الطرقات وفي بعض الأحياء كشفت هشاشة الدولة وعدم قدرتها في حلّ تلك المسألة بصورة منطقيّة. لقد كان مشهد النفايات المتكدسة والمتدفقة مع سيول مياه الأمطار رهيبًا ومرعبًا ومقزّزًا، ولا نزال قيد الانتظار. دولة لا تملك قدرة حل مسألة كتلك أنّى لها أن تلج الحلول الكبرى على مستويات عديدة وخطيرة؟
كلّ العناوين المحتدمة من اجتماعية وسياسيّة يقود إلى سؤال واحد: ما الجدوى من بقاء طاولة الحوار وما هي وظيفتها تاليًا؟
تشير أوساط سياسيّة إلى أن طاولة الحوار وإن تجوّفت، ولكنّها لا تزال أفضل من فوضى منتظرة على المستوى اللبنانيّ إسقاطًا للواقع الخارجيّ. ويظهر بعض الدبلوماسيين خشيتهم من أن يتجه لبنان إلى مطبّ في النهاية نتائجه محسومة طبقًا لموازين القوى على الأرض وهي واضحة تمام الوضوح. لكنّ الحوار بحدوده الواسعة وعلى الرغم من الهزّات التي أصابته بفعل التصاريح وردود الفعل المضادّة حاضن مقبول ومعقول في المدى الحالي ريثما تبلغ سوريا نحو الحسم.
لقد وضعت في الجولة الأخيرة عناوين تمّ تسريبها إلى الوسائل الإعلاميّة، أحدها مواصفات الرئيس. والواضح أن بعضها تحاول إنتاج العهد السابق بمبدأ ملتبس وهو النأي بالنفس. وقد قال رئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، بأنّ النأي بالنفس يحمي لبنان، وهو أمر لا ينطبق حكمًا على الصراع العربيّ-الإسرائيليّ بل على خلافات المنطقة. فوضع لبنان حسّاس، وأيّ أمر خلافيّ يعرّضه للشرذمة والانقسام، وهذا ما شهدناه تاريخيًّا منذ قيام حلف بغداد، وصولاً إلى الصراع الدّائر في المنطقة. لقد توقّف مصدر سياسيّ عند آفاق هذا الكلام ورآه شديد الالتباس من حيث الدقّة. ذلك أنّ الصراع الحاليّ، وإن تشعّب ما بين إيران والسعوديّة، وما بين السعوديّة وروسيّا، وما بين السعوديّة وسوريا... إلاّ أنّه يستهلك ورقة خطيرة وحارقة وهي ورقة الإرهاب التكفيريّ من "داعش" و"جبهة النصرة"، وبالتالي، فإنّ لبنان أمام محاولة استدخال العناصر التكفيريّة في بنيته السياسيّة من المستحيل له أن يقف على الحياد، وبخاصّة أن تلك العناصر تستدخل نفسها للوصول بإطارها العقائديّ إلى السلطة، والإطار العقائديّ هو ما يحدّد الخطورة بآفاقها وتداعياتها.
أمام ذلك من الخطورة أن يتكرّر مبدأ النأي بالنفس. المسالة ليست مجرّد كلام سياسيّ صار عابرًا، بل هو سعي مخطّط له متماه مع رؤى تشاء أخذ لبنان إلى حيث لا يشاء.
لقد تبين أن هذا المبدأ الذي أطلق في العهد السابق، كاد أن يقود لبنان إلى الهلاك العبثيّ. إنّ النأي بالنفس في المحصلة وبالسياق المطروح يدخل البلد في منطق صراع المحاور.
ليس البحث محصورًا بهذه المسألة بالطريقة التي قام بطرحها ميقاتي. وفي المنطق المجرّد هو على حقّ لو لم يتم استدخال تلك الأوراق في بنية الصراع. فهي مؤثرة وتملك القدرة على صياغة وجودها بالقوّة والبطش، ولهذا إنّ الصفة أو مواصفات الرئيس القويّ تملك القدرة على ترسيخ المناعة الحقيقيّة في عدم تسلل تلك القوى نحو لبنان. إنّ صفة القوي تبطل مبدأ النأي بالنفس، فالتكفيريون على أبوابنا والقضاء عليهم بكلّ المعاني والمعايير واجب أخلاقيّ بامتياز.
الحوار بهذا المعنى ليس معطى أو هدفًا، بل هو الوسيلة للبلوغ نحو الحلّ للعناوين الرئيسية التي وضعها رئيس المجلس النيابي نبيه بري. ومعظم العناوين وضعت على تلك الطاولة بانتظار ما ستؤول إليه الأوضاع في سوريا على وجه التحديد، لقناعة واضحة عند معظم المتحاورين في ساحة النجمة بأنّ الحلّ السياسيّ لن يسوغ قبل الحل الميداني. معظم القوى المتحاورة تملك قدرة التخاطب ولكنّها لا تملك قدرة الحلّ السياسيّ الجذريّ.
واستنادًا إلى ذلك، بدأت الرؤى في سوريا تتضح شيئًا فشيئًا خلف غبار المعارك الدائرة. فيظهر وزير خارجية سلطنة عمان يوسف بن علوي في دمشق في ضيافة الرئيس بشار الأسد ونظيره وليد المعلم ردًّا على زيارة الأخير له بعد عزلة طويلة. وقد كشفت بعض الأوساط معلومات تفيد بأنّ تلك الزيارة لن تكون يتيمة بل ستتبعها زيارات يقوم بها وزراء خارجية الكويت وتونس ومصر لسوريا. وهو بحدّ ذاته اعتراف واضح وصريح بشرعية الأسد بعدما حاول الخليجيون انتزاعها منه، وبمجرّد الاعتراف فهذا يعني أيضًا بأنّ أيّ حلّ سياسيّ في سوريا لن يمرّ إلاّ بالأسد حتمًا وحكمًا، وبخاصّة بأن زيارته لموسكو أثبتت تلك الحقيقة التي لا غبار عليها على الإطلاق. وعلى هذا فمن الطبيعيّ في لبنان سقوط الخيارات في الحيّز السياسيّ والتي راهنت على سقوط الرجل باعتراف النائب وليد جنبلاط نفسه القائل في حديث صحافيّ له بأنّ إمكانية التعيير في سوريا قد سقطت والحرب قد بدأت على الإرهاب. يكفي قول ذلك ممن راهن على ملاقاة الأسد جثة عند كعب النهر لتظهر آفاق الحلّ السياسيّ في لبنان بعملية استقراء أو استنباط للعملية الميدانية في سوريا.
طاولة الحوار على المستوى الداخليّ ما هي سوى محاولة للإبقاء على الاستقرار منطلقًا للحلّ المنتظر. وكالعادة تفيد بعض المصادر بأنّ الحلّ لن يكون في لبنان وعاصمته بيروت، بل تتجه الأنظار إلى مسقط فيجتمع فيها الأطراف اللبنانيون لينكبوا بديناميّة جديدة ورعاية من سلطنة عُمان على صياغة حلّ سياسيّ جذريّ عبر اتفاق جديد، يكون جزءًا من اتفاق شامل للحلّ من سوريا إلى اليمن. لن يبقى الطائف بعد الآن مصدرًا للحلول على الرغم من قول نبيه برّي بأن الرئيس يجب أن يحترم اتفاق الطائف. الطائف القديم قد مات، المرحلة اللبنانيّة الجديدة واستنادًا للمتغيّرات في سوريا ستعبر من الطائف إلى مسقط بحلّ قوامه قانون انتخابات على النسبيّة، والتي بحسب بعض الأوساط لن تتحقّق بدوائر صغرى أو كبرى، بل بمبدأ واحد هو: لبنان دائرة واحدة مع الصوت التفضيليّ، على قاعدة بأن قانون الانتخابات النيابيّة هو جوهر النظام السياسيّ اللبنانيّ، ورئيس جمهوريّة قويّ يمثّل بيئته ومن منطلق الحيّز التمثيليّ يملك طاقة التواصل مع معظم المكونات اللبنانية برؤى ميثاقية متوثّبة.