لو أردنا وصف الوضع الحكومي اللبناني للداخل والخارج، فمن السهل اختصاره بالخطوة التي أقدم عليها وزير البيئة محمد المشنوق منذ أسبوع، عبر مراسلة وزير الداخلية نهاد المشنوق طالباً منه تكثيف دوريات قوى الأمن في منطقة جبيل لضبط الفلتان في الصيد البري!
وزير البيئة المستقيل من ملف النفايات، ومن لجنة دراسة هذا الملف، ومن كافة مهامه، اهتم منذ عدة أشهر بتخصيص يوم للسلحفاة البحرية، وهو يهتم الآن بالبيئة البرية، ولبنان غرق في نهاية الأسبوع الماضي بكارثة حوّلت شوارع بيروت وجبل لبنان إلى "بحر" من النفايات.
أداء وزير البيئة هو مثال عن الأداء الحكومي العام، ويبدو لبنان وكأنه تفلّت من كل الضوابط، وبات نهائياً بلا مؤسسات دستورية، لأن إحالة "صلاحيات" وزير البيئة إلى وزير الزراعة بوجود وزير البيئة هي هرطقة تُقارب الفضيحة، ولا يتحمل وزير البيئة الأصيل مسؤوليتها شخصياً، لأنه لا يمتلك قراره، ولأن استقالته ممنوعة، ليس لأهمية وزارة البيئة التي يمكن أن يكلَّف بها أي وزير آخر، بل لأن اللعب بالتمثيل الحكومي ممنوع، ويفتح مجال الإخلال بالتوازنات الأخرى في وطن بلغ مؤسساتياً حافة الانهيار وفقد التوازن.
لكن المسألة الأخطر، هي تكليف الوزير أكرم شهيب بملف النفايات، ليس بصفته الوزارية الحالية في الزراعة، ولا بصفته وزير بيئة سابق، بل بصفته الشخصية المحسوبة على النائب وليد جنبلاط، الذي لديه "المونة" على أبناء منطقة الناعمة، وهو الوحيد الذي يمتلك مفتاح المطمر.
وبصرف النظر عن صفقات مناقصات النفايات التي حصل خلاف حولها ضمن حساب المحاصصات، وألغاها مجلس الوزراء، فإن هذه المسألة كانت وحدها كفيلة بأن يتقدم الوزير محمد المشنوق باستقالته، حفظاً لماء الوجه الشخصي، لو كانت الاستقالة مسموحة، خصوصاً أن الوضع حتى الآن يمنع استقالة الحكومة وتحويلها إلى حكومة تصريف أعمال، لأن الاستقالة تعني بداية التفكك الفعلي للكيان السياسي اللبناني، واللبنانيون أعجز من أن يعقدوا مؤتمراً تأسيسياً بمفردهم، وزمن الطائف والدوحة قد انتهى، علماً أن استقالة سلام وتحوُّل حكومته إلى تصريف أعمال لن تقدم أو تؤخر على المستوى العملاني، والبلد يعمل ليس من خلال حكومة بيانها الوزاري مستنسَخ من بيانات سابقة منذ العام 1990، بل إن عجلة الوزارات يحرّكها مدير عام الوزارة والمصالح والدوائر داخلها، والعمل في السلطة التنفيذية للدولة اللبنانية يعتمد على موظفين، سواء بوجود وزير أو غيابه.
لكن صخباً يشبه الهدير قادم إلى لبنان، وليست المسألة مقتصرة على الأزمات المعيشية والاقتصادية والبيئية، لأن الخطر يكمن في ما هو أعظم، ولبنان هو البلد الوحيد في العالم القائم على دستور وميثاق، وأول ضربة للدستور المعدل في الطائف، أن عدم تطبيقه كان الصفعة الكبرى للميثاق من وجهة نظر الفريق المسيحي، وبات بإمكان فريق أن يقول عن خطوته أنها دستورية، ليأتي فريق آخر ويقول نعم هي دستورية لكنها غير ميثاقية، لأن الدستور غير مطبَّق كاملاً.
وإذا كان اللبنانيون يريدون مثالاً بسيطاً عن حرب "داحس والغبراء" بين الدستور والميثاق، فكل خطوة أقدم عليها وزير الدفاع يعتبرها دستورية، لكن الرأي المخالف لرأيه يعتبرها غير ميثاقية، بل تمادياً بطعن الميثاق، بدليل أن انتخابات عامي 2005 و2009 جاءت بمنزلة "تعويض" لامتصاص النقمة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري على حساب المسيحيين، ثم جاء التمديد لولايتين متتاليتين حتى العام 2017، ومن ضمن المدَّد لهم واحد وعشرون نائباً مسيحياً في جيب الرئيس سعد الحريري والنائب جنبلاط، ما يُعتبر طعناً بالدستور لجهة تجديد الموكل لنفسه بمعزل عن الموكل، وطعناً بالميثاق لجهة مصادرة هؤلاء النواب الذين لا يمثلون أكثر من 15% من المسيحيين، وبالتالي يجب التمييز بين من يمثل المسيحيين فعلياً ومن فرضت الظروف السياسية والمذهبية مدعومة بالوفرة المادية الخليجية أن يصل إلى المجلس النيابي باسم المسيحيين، أو إلى أية وزارة في الحكومة، ومنها وزارة الدفاع.
وحيث إن الدستور اللبناني الحالي لا ينص على استفتاء الشعب، وإذا كان إقرار قانون الانتخابات النيابية مستحيل في ظل تعنُّت الرئيس الحريري، بحضانة سعودية، وإذا كان لا بد من مؤتمر تأسيسي يعيد بناء الثوابت الوطنية من جديد، وإقرار قانون انتخابات، وتعديل الدستور ليتواءم مع الميثاق، فمن هم المدعوون إلى هذا المؤتمر التأسيسي؛ كبار رجال الدين والأقطاب والنواب الحاليون؟ وماذا عن النقابات وجمعيات المجتمع المدني والأكاديميين ورجال القانون؟ ومن يحدد الممثلين الفعليين عن كافة الشرائح السياسية والاجتماعية والقانونية والاقتصادية لتوجيه الدعوات إليها، والخلاف على المدعوين الى المؤتمر التأسيسي يستدعي مؤتمراً تأسيسياً؟!
لا مؤتمر تأسيسي ولا من يأتمرون مادام البعض يأتمر بالخارج، ومادام لبنان ساحة كباش إقليمي، وإذا كان مفتاح قصر بعبدا مرتبطاً بمفتاح "قصر المهاجرين"، وإذا كانت حدود الكيان اللبناني باتت لصيقة أكثر بالحدود السورية، وبما يحصل ضمن الحدود السورية، فإن الحكومة اللبنانية ومعها مجلس نواب "تشريع الضرورة"، وباقي المؤسسات الدستورية، بما فيها كرسي بعبدا، هي ضمن قِدْر واحدة في "طبخة بحص" من الآن وحتى إشعار آخر يأتي من الإقليم بالتوقيت المناسب، بعد أن يتوقف العمل بالتوقيت السعودي.