لا يختلف إثنان أنّ الملفّ السوري عاد إلى واجهة الإهتمام الإقليمي والدَولي منذ إنطلاق العمليّات العسكريّة الروسيّة المباشرة في سوريا إعتباراً من 30 أيلول الماضي، أي قبل شهر كامل. ومع تكثيف الإتصالات السياسيّة بين العديد من الأطراف المعنيّة بشكل أو بآخر بالأزمة السوريّة، وحُضور العديد من الجهات إلى فيينّا، يُمكن تسجيل الملاحظات التالية:
أوّلاً: إنّها المحادثات الدوليّة الأولى الخاصة بسوريا التي تُشارك فيها إيران بشكل مُباشر، حيث أنّها كانت غير مدعوّة إلى مؤتمر "جنيف 1" الذي عُقد في العام 2012، وهي دُعيت إلى مؤتمر "جنيف 2" في العام 2014، قبل أن يعود الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون ليسحب الدعوة نتيجة ضُغوط شديدة مُورست عليه، حيث جرى التهديد آنذاك بإفشال المؤتمر في حال مُشاركة طهران. وهذا يعني أنّ "الفيتو" ضُدّ إيران قد رُفِع بحكم الأمر الواقع، وأنّ إيران فرضت نفسها حالياً لاعباً أساسيّاً في أيّ مُحادثات خاصة بالملف السوري من الآن فصاعداً، وأصبح مُمثّلو إيران يجلسون على الطاولة نفسها مع ممثّلي السعوديّة، في خطوة هي الأولى من نوعها أيضاً بين البلدين بالنسبة إلى الملفّ السوري.
ثانياً: لم يعد من المُمكن بعد مُحادثات "فيينا" عقد إجتماعات لحلّ الأزمة السوريّة الدموية والمُستمرّة منذ آذار 2011 حتى اليوم، من دون إشراك روسيا في مُقابل الولايات المتحدة الأميركية على مُستوى الحُضور الدَولي، ومن دون إشراك إيران في مقابل كلّ من السعودية وتركيا على مُستوى الحُضور الإقليمي(1)من دون أن ننسى أيضاً مُشاركة الصين ومصر وقطر ودولة الإمارات، ولو بشكل أقلّ أهمّية. ولأنّه لا يُمكن تغييب الدَور الأوروبي بالمُطلق، خاصة وأنّ أزمة اللاجئين السوريّين تُلقي بظلالها على دول الإتحاد الأوروبي كافة، جرت دعوة ممثّلين عن كل من بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وألمانيا إضافة إلى وزيرة خارجيّة الإتحاد الأوروبي فيديركا موغريني. وهذا يعني أنّ أيّ تسوية مُحتملة صارت مُرتبطة أكثر من أيّ وقت بمصالح مجموعة واسعة من الدول الإقليميّة والدَوليّة، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الصعوبات والتعقيدات للوصول إلى تسوية تُرضي الجميع. لكن وفي الوقت عينه، في حال التوصّل إلى تسوية في ظلّ هذا الغطاء الإقليمي والدولي الواسع، فهذا يعني تلقائياً إرتفاع فرص نجاح تطبيقها على الأرض.
ثالثاً: على الرغم من المُشاركة اللبنانيّة عبر وزير الخارجية جبران باسيل فإنّ لا دور مُباشر للبنان في أيّ تسوية، حيث أن لا سُلطة للدولة على قرار "حزب الله" المُشاركة في الحرب السوريّة إلى جانب النظام، ولا قدرة عمليّة لها على منع قتال بعض الشبّان اللبنانيّين إلى جانب المُعارضة. وقد تمّت دعوة لبنان شأنه شأن الأردن، بصفتهما من دول الجوار ومعنيّين مُباشرة بأزمة اللاجئين التي يُعانيان منها.
رابعاً: كان لافتاً غياب أيّ ممثّل عن النظام السوري أو عن جماعات المُعارضة السوريّة عن إجتماعات فيينّا، وكأنّ الملف السوري صار بيد كل الدول والجهات بإستثناء السوريّين أنفسهم، في دليل آخر على مدى تشعّب هذا الصراع، وعلى خروجه من يدّ السوريّين بشكل كامل.
خامساً: إجتماعات فيينا تأتي بعد شهر على المعارك الضارية التي كانت إنطلقت على العديد من جهات القتال بدعم عسكري روسي مُباشر، من دون أن تحدث حتى الساعة تغييراً جذرياً في موازين القوى على الأرض، على الرغم من إلحاقها خسائر ملحوظة في صفوف المعارضة في أكثر من موقع ومكان. وهذا يعني إستحالة فرض أيّ إتفاق بالقوّة في هذه المرحلة بالتحديد، حيث أنّ موازين القوى لا تسمح بذلك حتى إشعار آخر.
سادساً: هدف المُشاركة الروسية هو تأكيد عدم إمكان تمرير أيّ تسوية لا تأخذ في الإعتبار المصالح الروسيّة، ومُحاولة إقناع أكبر عدد مُمكن من الدول بأهمّية ضرب الجماعات السوريّة المُسلّحة المُتشدّدة بغض النظر عن هويّتها وإنتمائها كبداية للحلّ السياسي، بينما هدف المُشاركة الأميركية هو رفض ترك الساحة للروس، والعمل على موازنة التحالفات الإستراتيجيّة التي تربط واشنطن بكل من تل أبيب وأنقره والرياض وغيرها في آن واحد. وبالنسبة إلى المُشاركة الأوروبيّة فهي ترمي إلى قطع الطريق على محاولات إستبعاد أوروبا عن أيّ إتفاق حلّ مُستقبلاً، خاصة وأنّ لأوروبا مصالح مهمّة في الشرق الأوسط وسوريا، وهي أيضاً من بين الأكثر تضرّراً من أزمة اللاجئين.
سابعاً: هدف المُشاركة الإيرانية الأساسي يتمثّل في تأكيد المُستوى الذي بلغه النفوذ الإيراني في الشرق الأوسط عُموماً وفي أزمة سوريا خصوصاً، بينما هدف المُشاركة السعودية الأساسي يتمثّل في رفض محاولات فرض أيّ تسوية لا تأخذ في الإعتبار ضرورة إبعاد الرئيس السوري بشّار الأسد عن الحُكم، علماً أنّ تركيا التي تختلف مع السعودية في أكثر من ملفّ، تلتقي معها على بند إزاحة الأسد عن السلطة بشكل أو بآخر عاجلاً أو آجلاً. وقد سُجّلت في الساعات الماضية ضُغوط كبيرة لسحب مسألة مصير الأسد من محادثات فيينّا بهدف عدم إفشالها سلفاً!
في الختام، يُمكن القول إنّ من كتب وأخرج المُسلسل السوري الكوميدي "صحّ النوّم" الذي عُرض في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، ومن إختار إسم "حارة كل مين إيدو إلو" على المنطقة التي تدور فيها أحداث المُسلسل، لم يكن يعلم أنّ هذا الإسم الساخر لهذه الحارة التي يغيب فيها القانون وتضعف فيها هيبة السُلطة، سينطبق بشكل دقيق على وضع سوريا ككل بعد نحو ثلاثة إلى أربعة عقود! كيف لا وسوريا باتت أرضاً لمعارك وحروب يُشارك فيها بشكل مُباشر عناصر من عشرات الجنسيّات، وتموّلها وتدعمها وتتفاوض بشأنها جهات من عشرات الدول أيضاً؟! وبالنسبة إلى نتائج محادثات فيّينّا، لا يزال من الباكر جداً تقديم أيّ تقييم دقيق، لكن الأجواء العامة لا تُوحي بأنّنا على باب قوسين من أيّ تسوية أو حلّ سياسي في الأسابيع أو الأشهر القليلة المُقبلة.
(1)تتمثّل هذه الدول عبر وزراء خارجيتها، وهم: الأميركي جون كيري والروسي سيرغي لافروف، والإيراني محمد جواد ظريف، والسعودي عادل الجبير، والتركي فريدون سينيرلي أوغلو.