شهر مضى على الحملة العسكرية الجوية الروسية ضد الجماعات المسلحة في سوريا. مئات الاهداف اصابتها الطائرات الروسية على مساحة سوريا من دون تحديد رقعة جغرافية محدّدة. لكن معطيات الميدان كانت توحي بأن حسابات سياسية روسيّة منعت او استمهلت ضرب مجموعات مسلحة خصوصا في ريف دمشق، وإعطاء الفرص للتفاوض المرتقب. لم تستعمل روسيا اساساً عشرة في المئة من قواتها العسكرية التي سمح بها الكرملين. لم يتجاوز عدد الطائرات خمسين، فيما كانت وافقت موسكو على استخدام 700 طائرة. بدا ان الروس هزّوا العصا واستخدموها احيانًا من دون اعتماد سياسة البتر. كانت روسيا تطرح نفسها وسيطًا للتفاوض، او على الاقل لم تعمد الى قطع كل خيوط التفاهم المحتمل مع الأميركيين والأتراك والسعوديين. تلك كانت نصيحة مصرية ايضًا. القاهرة بقيت قياداتها العسكرية على تواصل مفتوح مع موسكو. كانت القاهرة تشجع ضرب "داعش" و"جبهة النصرة" وأي فصيل يرتبط بتنظيم "الاخوان"، وتحييد "الجيش الحر" او جماعة زهران علوش المرتبطين بالسعودية.
قبل ان يحلّ موعد مؤتمر فيينا، نجحت موسكو بفرض رأيها السياسي وإجبار الخليجيين والغربيين على الإقرار بدور ايران. هذا كان مستحيلا قبل الضربة الروسيّة والاتفاق النووي.
ما بين الزيارتين السعوديتين لولي ولي العهد محمد بن سلمان الى روسيا، سُجلت متغيرات سياسية فرضها الميدان السوري. لم تكن الشروط السعودية ذاتها في الزيارة الثانية. ما كان يصح قبل الحملة لا يمكن القبول به بعدها. هذا ما ابلغه الروس للامير السعودي. انخفض السقف ووصل الى حدود الموافقة على التفاوض مع "النظام" عبر معارضين سوريين، رغم تكرار مقولة "وجوب رحيل الرئيس بشار الاسد".
لكن المشهد بمجمله يميل لمصلحة الرئيس السوري. هذا ما مهّد له الاميركيون اعترافاً بموازين القوى.
مجرد مشاركة طهران في مؤتمر فيينا يعني اقرارًا بدور إيراني مساند لروسيا ومنحاز بالطبع الى الاسد. أيضًا القبول بترحيل النقاش حول مصير الرئيس السوري الى مرحلة لاحقة يقرر فيها الشعب ماذا يريد من خلال عبارة "الشعب هو من يحدد مستقبل سوريا"، يعني الرضوخ عمليا الى الشرط الروسي حول عدم المس بحق الاسد بالترشح للرئاسة. هذا ما يفسره الكلام عن "الشعب السوري هو من يحدد".
يعتقد هنا الروس ان الاسد سيفوز حكمًا بالرئاسة. بالنسبة اليهم،
اولا: تغيب المنافسة الجدية القادرة الفاعلة لشخصية معارضة. لم تنتج المعارضة خلال خمس سنوات تقريباً شخصية قيادية تجمع المعارضين.
ثانياً: تعتقد موسكو ان مجرد وجود الأغلبية الشعبية في المناطق الخاضعة للدولة من الساحل الى الوسط ودمشق الى الجنوب، حيث الكثافة السكانية، يوحي بأن النجاح سيكون حليف الاسد في الانتخابات. التجربة حصلت مع الموجودين خارج سوريا أيضاً كما في لبنان والأردن.
ثالثاً: مجرد الإجماع على ان سوريا دولة موحدة علمانية يعني ان الإسلاميين سيفقدون ثقلهم ومصداقيتهم وقوة خطابهم التحريضي الذي مارسوه خلال سنوات مضت، ما يؤكد سقوط جوهر المشروع المناوئ للأسد.
رابعاً: التسليم بدور الجيش السوري ووحدته الى جانب القوى الامنية والمؤسسات الرسمية يقوي من خيارات الاسد الرئيس المفضل عند تلك القوى. يعتقدون ان من واجه الحرب بثبات يستحق ان يبقى رئيساً في السلم.
خامساً: مجرد تفكك جبهات المسلحين ما بين "داعشي" او "نصرة" او ألوية اسلامية اخرى، يعني ان "البلوك المسلح" تهاوى بعد سقوط بنيته التنظيمية الاساسية.
بالمقابل، يظن السعوديون ان الأكثرية السنية ستصوت ضد الاسد، من يعني سقوطه في انتخابات الرئاسة. هذا يفسر كلامهم ان لا مستقبل له في حكم سوريا.
في الشكل غابت قطر عن اجتماعات فيينا. انتهى دورها وتمّ ترتيب "جبهة النصرة" في خانة الإرهابيين المستهدفين الى جانب "داعش". هناك من يقول ان لعبة تركية جرت للّحاق بقطار التسويات في آخر لحظة، كي لا يدفع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان الثمن في الانتخابات. قد يفسر هذا الموقف عدم بتّ الروس ساحة ادلب عسكريًا قبل الانتخابات التركية. هناك قطبة مخفية فرملت إندفاعة الطائرات الروسية شمال سوريا. جرى ملء الفراغ بغارات على الجنوب السوري ضد المسلحين. لا يصب الامر فقط في دفع مجموعات الى المصالحات و"تسويات الأوضاع"، علمًا ان درعا تتحضر لدفعات جديدة وإعلان مصالحات اشمل يجري ترتيبها.
قد يكون طريق التسوية السياسية طويل، لكن ما يفعله وزير الخارجية العُماني يوسف بن علوي بين طهران والرياض وصولا الى الاتصالات مع كل القوى الدولية، يوحي بأن مشروع تسوية شامل تعدّ له سلطنة عمان بصمت. اشارة الكلام السعودي عن قرب انتهاء العمليات العسكرية في اليمن مقدمة للدخول في مفاوضات مباشرة في مُسقط لوقف الحرب اليمنية.
عندها يجري التأكيد ان الساحات متشابكة: لا حل في سوريا من دون اليمن، ولا حل في اليمن من دون مقاربة وضع العراق. انه زمن مشاريع التسوية الشاملة، لن تكون اسرائيل بعيدة عنه. هذا ما سوق له وزير الخارجية الأميركي جون كيري في جولته الاخيرة لبتّ الخلافات بين الفلسطينيين والإسرائيليين كمرحلة اولى قبل التوسع في اعادة "مفاوضات السلام" الى المنطقة. هذا ما تدعمه موسكو. وهنا سر الداء الإقليمي والدواء.