تماماً كما نتنياهو قبله، فاجأ الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الجميع، وتخطى كل التوقعات بفشل حزبه في الوصول إلى أغلبية مريحة تمكّنه من تشكيل حكومة وحكم البلاد بطريقة منفردة؛ فقد حقق "حزب العدالة والتنمية" فوزاً كاسحاً بالرغم من أن الأعداد لم تكن على قدر آمال أردوغان، الذي كان يأمل في الحصول على أغلبية ثلثي البرلمان، حتى يتمكّن من القيام بتعديلات دستورية، أهمها تغيير النظام السياسي إلى نظام رئاسي بدل البرلماني، وكتابة دستور جديد لتركيا.
لعل كثيرين تحدثوا عن الوسائل التي استخدمها أردوغان وأركان حزبه، خصوصاً أحمد داود أوغلو، للحصول على هذه النتيجة، خصوصاً استخدام العنف والقتل والقلق الأمني، وعدم الاستقرار، بالإضافة إلى خطابات الترويع والتخوين، وترهيب المعارضين، وتهديد الأكراد، بالإضافة إلى الوعود الانتخابية التي أغدقها أردوغان لتشجيع الناخبين، والتي يندرج بعضها ضمن إطار تدخله في الحياة الخاصة والشخصية للأتراك.
وللمتابعين للانتخابات التركية، وهم كثر من داخل تركيا وخارجها، يبدو السؤال الجوهري اليوم: ماذا بعد الانتخابات التركية؟
1- لا شكّ أن الأزمة السورية ستكون أكثر المتأثرين بهذا الفوز الأردوغاني الساحق، والذي سيدفعه إلى مزيد من التعنّت، ومحاولة دفع الأمور إلى التصعيد، لتحقيق مكاسب في الميدان السوري، يحصّل بعدها مكاسب سياسية تجعله من الأطراف الرئيسية التي ترسم مستقبل كل من سورية والعراق.
وللتصعيد الأردوغاني المرتقَب بعد الانتخابات هدفان: إسقاط النظام السوري، أو على الأقل إسقاط الرئيس السوري بشار الأسد، والذي بات العداء الأردوغاني موضوع شخصي أكثر منه سياسي، أو عقلاني. أما الهدف الثاني، فهو ضرب بنية الإدارة الذاتية التي بدأت تتشكل بشكل واقعي، خصوصاً في ظل تحالف الأكراد مع كل من أميركا وروسيا، وتفهّم الدولتين الأخيرتين لمطالب الأكراد المشروعة بحكم ذاتي، بالإضافة إلى إعلانهما - كل على حدى - أن الأكراد جزء لا يتجزأ من استراتيجية المواجهة مع "داعش"، ولطالما كان من الصعب خلال السنوات الخمس الماضية، أن تتفق الدولتان المتنافستان على كسب النفوذ وتوسيع دائرته في الشرق الأوسط على أمر ما بشكل مؤكد؛ فإن اتفقوا تمّ الأمر، وإن اختلفوا طال النزاع، ولعل اللافت اتفاقهما على محورية الدور الكردي، وهو ما يقلق الأتراك بشكل جدّي.
2- على صعيد الداخل التركي، وبالرغم من انتصار "العدالة والتنمية" الذي خيّر الناخبين "أنا أو الفوضى"، لكن الوضع التركي لا يشي بالذهاب نحو الاستقرار الذي وعد به أردوغان شعبه في حال فوزه في الانتخابات، وقد يكون العامل الكردي، والتراجع الاقتصادي والركود والبطالة، بالإضافة إلى قضية الأعداد المتزايدة للاجئين السوريين، وتغلغلهم في البلاد وفي اقتصادها ونسيجها الاجتماعي، عامل من عوامل التأزيم التي لا يمكن ضبطها بسهولة.
3- بالنسبة إلى الأوروبيين التوّاقين إلى تفاهم ما مع تركيا، لضبط موضوع الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا، وتدفُّق اللاجئين غير المسبوق، فإن الانتصار الانتخابي ووهم فائض القوة الذي تحصّل عليه حزب أردوغان، سيجعل من الشروط التركية أعلى من ذي قبل، ما قد يدفع أوروبا - في ما لو اختارت الخيار العقلاني - إلى الضغط للوصول إلى حل سياسي في سورية، يسمح لهم برفض اللاجئين وإعادتهم إلى بلادهم بدون التشهير بهم في الإعلام العالمي، بالإضافة إلى التنصُّل من مطالب الأتراك بالدخول إلى الاتحاد الأوروبي، أو - على الأقل - السماح للأتراك بالدخول إلى أوروبا بدون تأشيرة، وهو ما قد يغرق الدول الأوروبية بالعمالة التركية ويعزز البطالة الأوروبية، ويخلق تحديات للسلطات الحاكمة ليس أقلّها صعود اليمين المتطرف في كلا الحالتين: فتح الأبواب للأتراك أو للاجئين السوريين.
4- بالنسبة إلى كل من أميركا وروسيا، فلا يضير أي من الدولتين بقاء أردوغان وحزبه في الحكم في تركيا، فالروس يقيمون علاقات اقتصادية غير مسبوقة مع الأتراك، ويطمحون بأن يكون أنبوب السيل التركي بديلاً مقبولاً عن الأنبوب الأوكراني. أما الولايات المتحدة فهي تعتمد بشكل أكيد على الحليف التركي - عضو حلف "الناتو" - لتسيير شؤون المعارضة السورية والمجموعات المسلحة، وقد يكون عودة "حزب العدالة والتنمية" إلى الحكم بشكل منفرد من الأمور التي تريدها الإدارة الأميركية بشدّة، إذ إن الأزمة السورية تمرّ في أخطر مرحلة من مراحلها بالنسبة للأميركيين، وهم يحتاجون إلى حلفاء موثوقين وقادرين ومستقرين لفرض وجهة نظرهم وخياراتهم سواء في الميدان السوري أو في مؤتمرات فيينا.