استقال الإعلامي غسان بن جدو من قناة "الجزيرة" الفضائية في نيسان/ أبريل من العام 2011، وبعده بأسابيع غادرت منها خمس مذيعات، وتزامنت الاستقالات مع حملة من بعض الصحف البريطانية، وصفت فيها "الجزيرة" بأنها صانعة الحروب في الشرق الأوسط.

بصرف النظر عن أسباب الاستقالات، فإن الزميل بن جدو لا يوحي لأحد بأنه إعلامي يسعى خلف وظيفة هنا أو هناك على حساب القناعات، بل نقرأ فيه قلماً نبيلاً لديه ثوابته القومية وإيمانه بالنضال في ميادين الكلمة الحرة من قبل أن تنطلق "الميادين"، إضافة إلى ما يتحلى به من أدبيات الإعلام الراقي والأخلاق الرفيعة، والالتزام بالقضايا العادلة، ما يؤهّله لأن يكون من أبرز الإعلاميين الذين عرفهم تاريخنا المعاصر.

وعندما انطلقت قناة "الميادين" في حزيران/ يونيو من العام 2012، كانت رسالتها الأولى أنها اعتمدت تحت الشمس توقيت "القدس الشريف"، وبدت وكأنها نزلت إلى ساحات النضال القومي لتصحيح المسار الإعلامي الخاطئ، والبوصلة العربية التائهة عن فلسطين وعن الاحتلال "الإسرائيلي" الرابض على صدور المناضلين الفلسطينيين، والساكن في قلوب من ينعتون أنفسهم بـ"عرب الإعتدال".

ومذ ذاك التاريخ، قادت "الميادين" ومعها وسائل إعلام عربية ملتزمة بمقارعة الاحتلال ونصرة فلسطين، ثقافة الوعي الشعبي، إلى أن توسّعت رقعة التحديات بانتشار وباء ما اتُّفق على تسميته "الربيع العربي"، وبدء تنفيذ مشروع "الشرق الأوسط الجديد" بنسخته الأميركية، وبدأت الخرائط المرسّمة ترتسم على الأرض بدماء العرب، فاستبيحت الحدود، وبدت سايكس - بيكو 1916 وكأنها ستحتفل بمئويتها في العام المقبل وقد استولدت برعاية العروش العربية والعثمانية البالية سايكس - بيكو بنسخة 2016، ويغدو العراق ثلاث دويلات، وسورية أربعاً، واليمن أقاليم، وإرهاب "القاعدة" و"داعش" وأخواتهما يزرع الأمة العربية من المحيط إلى الخليج، بما أنزله كتاب "إدارة التوحش" على الوحوش من موجبات التدمير والتهجير والنحر والتنكيل والسبي والاغتصاب، وكل انتهاكات حقوق الإنسان؛ في أشنع وأوسع حرب بربرية عرفها التاريخ المعاصر.

ليست "الميادين" في ميدان التحدي لمواجهة "عربسات" كشركة ناقلة، بل هي بمواجهة القنوات العميلة المأجورة، لأن الإعلام المقاوم لديه وسائله المرئية والمكتوبة والمسموعة التي تجد صدى لدى الجماهير الشعبية المؤمنة بالحرية والكرامة وحق الوجود، وإذا كانت السعودية قد حجبت "الميادين" عن الشعب السعودي، فهي اعتادت أن تحجب عن هذا الشعب هواء الحرية، وما حملة التضامن مع "الميادين" سواء في فلسطين المحتلة ولبنان وسائر الدول العربية على مستوى الشعوب والمؤسسات الإعلامية والثقافية والنخبوية، سوى تضامن مع الذات وإيمان بالوجود الكريم ضمن أمة عربية لن تنهض من كبوتها، لا بوعي حكامها ولا بالجامعة العربية المحنّطة، بل بشباب مؤمن بقضيته، وقد تكون "الانتفاضة الثالثة" التي يقوم بها الشباب الفلسطيني بداية لتصحيح المسارات الجماهيرية.

ما يحصل في فلسطين المحتلة في مواجهة المستوطنين الصهاينة، هو أضمن الوسائل لزعزعة استقرار الكيان المحتل بأبسط الوسائل، ودون أي دعم مادي أو لوجستي أو عسكري، والمقاومة في لبنان التي أعطت غزة دروساً في إتقان لغة الصواريخ لترهيب العدو بمثل إرهابه ونقل النار إلى داخل المجتمع "الإسرائيلي"، هي نفسها هذه المقاومة اليوم تؤيد على لسان قائدها في "المؤتمر العلمائي لنصرة فلسطين"؛ الاستمرار في الجهاد والنضال بالأدوات البسيطة سواء كانت حجراً أو سكيناً أو مقلاعاً، لأنها جعلت المواطنين "الإسرائيليين"، خصوصاً في المستوطنات المتداخلة مع الوجود الفلسطيني، يحسبون ألف حساب عند التوجُّه إلى أعمالهم، والتواجد في بعض الأسواق وأماكن مرور الحافلات، وباتت بعض المناطق جبهات يركد تحتها جمر المقاومة وتستعد للمواجهة.

إن "نواطير النفط" الداعمين للإرهاب، واهمون لو اعتقدوا أن عروشهم ستنجوا من هذا الإرهاب، وأن ترسانات أسلحتهم الأميركية قادرة على وأد الحريات في تقرير المصير، وهم أعجز من أن يواجهوا أيادي راجمي الحجارة في فلسطين، وكمّ أفواه الإعلام المقاوم، لأن زمام الأمور بات بأيدي الجماهير الشعبية وليس بأيدي الحُكام، وحسب "الميادين" ومعها كل وسائل الإعلام الشريفة أن تقود معركة استعادة الحريات والكرامات، والسيوف الصدئة لن ترفعها عن أعناق المقهورين سوى سكاكين الانتفاضات وأقلام النضال القاطعة كما حد السيف.