على تلّة عالية في منطقة جون يقع دير المخلّص(1). هذا الدير الذي يعود بناؤه الى عام 1711 على أيدي الرهبان أنفسهم، تحيط به حقول وبساتين تنتصب في غالبيتها أشجار الزيتون، ويملكها الدير ومنها يصنع منها انتاجه.
إبتداءً من أول تشرين الأول وحتى أواخر كانون الأول من كل عام يستمر قطاف الزيتون(2)، فيجتمع العمال ويفترشون تلك البساتين طوال النهار سعياً وراء تلك الثمرة، التي تحدّث عنها الكتاب المقدّس بشكل مُسهَب فوَرَد ذكر زيت الزيتون فيه نحو 140 مرة وشجرة الزيتون نحو 100 مرة، في حين ذكر القرآن الكريم الزيتون سبع مرّات في سبع آيات مختلفة، ويكفي أن تكتسب شجرة الزيتون هذا الذكر في الكتب المقدّسة لتحظى بالعناية اللازمة من الشعوب على مرّ الزمن.
"أرض الدير كريمة إذ لم تبخل علينا بمحصول الزيتون". هكذا يصف وكيل أرزاق دير المخلّص في جون فادي وهبي، المشهد لـ"النشرة"، لافتاً الى أن "العمال يتوجهون في الصباح الى القطاف ونقوم بعدها بتجميع الكميّات في أكياس خاصة وإحضارها الى المعصرة لتحويل الزيتون الى زيت".
طن زيتون يومياً
يعدّ الزيت الفاخر من أهم منتوجات الدير، ويومياً يقوم العمال بناتج يتراوح بين مئة وخمسين الى ثلاثمئة تنكة زيت حسب المحصول. هذا ما يؤكده وهبي، ويقول: "نقطف يومياً تقريباً حوالي الطن (1000 كليوغرام) زيتون ونحوّله الى زيت"، شارحاً في نفس الوقت أن "كلّ ستين الى سبعين كيلو زيتون هم عبارة عن "تنكة" زيت".
في دير المخلص معصرة شُيّد لها بناء خاص عام 1929 وجُدّدت سنة 1980. يعمل فيها عدد من الأشخاص وهي مجهزة بآلات حديثة. وهنا يشير وهبي الى أنّ "في هذا العمل لذّة وهو أصبح بالنسبة لنا هواية لا يمكن الإستعاضة عنها بأي شيء آخر"، ويضيف: "بالرغم من تعب النهار وكلّ العمل الشاق إلا أنه وعند رؤيتنا للزيت يخرج صافياً في النهاية من الآلة ننسى كلّ شيء".
في تلك المعصرة الصغيرة الحجم، تستخرج أنقى الزيوت وأصفاها، وفي هذا المجال يشرح فادي أن "المرحلة الأولى بعد القطاف هي غسل الزيتون"، ويشير الى أن "الأطنان توضع في آلة الغسيل ما يؤدي لتعقيم الزيتون وتنظيفه".
هكذا يتحوّل الزيتون زيتًا
ويشرح وكيل أرزاق دير المخلّص بغرام قلّ نظيره العمليّة التي تمر بها حبوب الزيتون لتصبح جاهزة لتقدّم على موائد الطعام، فتخرج من الالة مفصولة نظيفة ومهيّأة لتدخل المكبس على حرارة غير مرتفعة حيث يتم تكسيرها، لتنتقل بعدها الى مرحلة الطحن اذ يتم استعمال طواحين حجرية ضخمة تعمل بواسطة محرك ديزل او الكهرباء، لتنتج عجينة يختلط فيها "جفت الزيتون"(3) مع الثمرة المهروسة والمشبعة بالزيت والتي تنتقل لتصب على قوالب دائرية مصنوعة من القصب او "الخيش"(4)، ويتابع الوكيل كلامه: "تنقل القوالب بما تحمله من عجينة الزيتون وتُرْصَفَ فوق بعضها حول عمود المكبس الضخم ثم يضغط عليها مَجْموعَة، ويبدأ عندها السائل المعصور بالخروج وبعض بقايا الثمار الى مرحلة الفرز التي تعتمد على الطرد المركزي لفصل الزيت عن الماء. وهناك معاصر تعتمد التصفية لفصل الزيت في الطبقة العليا والتخلص من الماء"، مضيفاً: "بعد مرحلة دخول وخروج لبّ الزيتون، يتم تفريغ محتوى القفّة الصلب بحيث يتحول الى مادة صالحة لاستخدامات عدّة، منها لإنتاج الطاقة او سماد عضوي".
في غرفة صغيرة توضع خوابي الزيت التي يستريح فيها المنتوج حوالي عشرة أيام ليصار بعدها الى تعبئتها في جرار مخصصة وبيعها.
تصوير علاء كنعان
(1) يُعتبَر دير المخلص من المعالم الأثريّة والتاريخيّة المهمّة في إقليم الخرّوب، فهو أوّل دير بُني في المنطقة في العصور الحديثة. هو الدير الأمّ للرهبانيّة الباسيليّة المخلّصيّة، التي أسّسها المطران أفتيميوس الصيفيّ عام 1723 والذي كان مطرانًا على أبرشيّة صور وصيدا للروم الملكيين الكاثوليك. في ربيع سنة 1685 كان المطران يتفقّد أبرشيّته، ولمـّا وصل إلى قرية جون توافد أهل القرى المجاورة للقائه والسلام عليه، يحملون بنادقهم تحسّبًا للعصابات المنتشرة بكثرةٍ في تلك الأيّام. وكان مع أحدهم بندقيّة من طراز جديد ذات ديكٍ فولاذيّ، فأخذها الشمّاس أثناسيوس نصر، المرافق للمطران، وجعل يتفحّصها، فلمس إصبعه الديك عَرَضًا وعندها أنطلق الطلق الناريّ، وأستقر في صدر أحد الكهنة الواقفين بإزائه، وهو الأب إبراهيم الطوطو، فسقط على الأرض. وحالما سمع المطران طلق البندقيّة ردّد بإيمان الهتاف الذي كان يصعّده عادةً: "يا مخلّص العالم!"، وركض مع الحاضرين نحو الكاهن المصاب يسأله عن حاله، وإذا بالكاهن يقول له: "لا تخفْ يا معلّمي أنا طيّب". ونزعوا ثيابه فوجدوا الخردق متجمّعًا فوق صدره دون أن يؤذيه. رأى المطران في هذه الأعجوبة إشارة من السماء ليبني في تلك المنطقة ديرًا لرهبانه على اسم المخلّص، وأختار مزرعة يُقال لها: "مشموشة التحتا" تقع على تلّة شرقيّ جون، لتكون مقرًّا للدير وسنة 1710 نال المطران تصريحاً لترميم المزرعة لتصبح مأوى للرهبان ومخبأً لمعدّات الحراثة وملجأً لأبناء السبيل وعابري الطرق.
(2) يعتبر زيت الزيتون المحضّر من ثمار الزيتون بالعصر على البارد (يطلق عليه زيت عذري)، ويعالج الحساسية المتكررة ومشاكل الجهاز الهضمي ومليّن خفيف، ويعالج تورم العقد الليمفاوية والوهن وتورم المفاصل وآلامها وقلة الشهيّة والجيوب الأنفية المنتفخة ومشاكل الجهاز التنفسي ولاسيما الربو وقروح الجلد والقلق ووهن العضلات، وكان يستخدمه الإغريق لتنظيف الجروح والتئامها، وهو مضاد للبكتيريا والفطريات والطفيليات والفيروسات ويفيد في البواسير. كان يتمّ تناوله لعلاج داء النقرس وتخفيض السكر في الجسم وضغط الدم وتقوية جهاز المناعة.
ويمتاز زيت الزيتون عن غيره من الدهون الحيوانيَة والنباتيَة بأنَه سهل الهضم، لأن التي يحتويها أشبه بتلك الموجودة في حليب الأم، أي أنَه سهل الامتصاص.
وهو يحتوي على كميَة كبيرة من فيتامين "د" ومواد مهمَة تساهم في تقوية الأعصاب، ومادة مضادَة للأكسدة تساهم في تحطيم الجزيئات الضارة المتراكمة في الجسم. وعلى حامض الأوليك والبالمتيك مع مضادات الأكسدة مثل الفلافونويد وفيتامين هـ والكيروتين وهي مركبات تعمل على تنظيم مستوى السكر بالدم. كما يعمل زيت الزيتون أيضاً على ابطاء الهضم في المعدة ليساعد بذلك في ابطاء زيادة السكر. وفي دراسة نشرت عام 2005 وجد أن حمض الأوليك والأحماض الدهنية غير المشبعة قد ساهمت في الحد من تأثيرات الجينات السرطانية. وفي دراسة أخرى نشرت في مجلة "بي إم سي كنسر" أظهر زيت الزيتون قدرة أحماض الكربوليك الموجودة فيه على وقف سرطان الثدي "HER2" والعمل على التخلص منه.
(3) "جفت الزيتون" هو ممّا يبقى من مخلّفات ثمر الزيتون بعد عصره ويُستعمل للتدفئة في فصل الشتاء ويصل سعر الطنّ المُقَوْلَبْ الى 250 الف ليرة لبنانيّة.
(4) الخيش هو نوع من أنواع الأقمشة يُصنّع من الـ"كتّان".