من قال ان زمن الاعاجيب قد ولّى؟ ها هو يظهر بأقوى صورة له في لبنان، وبالتحديد عبر تقارب سريع بين رئيس "تيار المستقبل" النائب ​سعد الحريري​ والامين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله. من واكب الخلاف السعودي-الايراني في الفترة الاخيرة والتصعيد الكلامي غير المسبوق بينهما، تسنى له ايضاً متابعة الاشتباكات الكلامية "بالاسلحة الثقيلة" في بيروت بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، الى حد كان يمكن القول معه ان "الجرّة قد كسرت" بينهما.

ولكن، بعد الاعتداء الارهابي الوحشي الذي تعرضت له منطقة​ برج البراجنة​ والذي تبعه اعتداء ارهابي آخر في فرنسا، استفاق اللبنانيون على كلام من نوع آخر وعلى ما يشبه "وقف اطلاق النار" بين الطرفين، سرعان ما تصاعد بشكل سريع جداً ليصل الى درجة التقارب. فما الذي حصل بالفعل وهل ثمة تغيير في المواقف؟

بعد مأساة برج البراجنة، اطل نصر الله عبر الشاشة ليتحدث عن العملية الارهابية ويشرح بعض فصولها وما وصلت اليه التحقيقات والاهداف التي كانت تخطط لها "داعش" من وراء العملية الانتحارية الارهابية، ولكنه ضمّن كلمته كالعادة موقفاً سياسياً، فدعا الى تسوية وطنية شاملة(1). وما هي الا ساعات قليلة حتى رد الحريري على هذا الكلام عبر تغريدات على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي تميزت بالترحيب وبالايجابية(2).

في المبدأ، لم تتغيّر مواقف اي من الرجلين، فصحيح ان نصر الله دعا في اكثر من مناسبة الى تسوية شاملة والى الجلوس على طاولة للبحث في سبل الحفاظ على لبنان، كما انه صحيح ايضاً ان الحريري شدد اكثر من مرة على اهمية الاستحقاق الرئاسي ووجوب البت فيه. ولكن ما الذي اكسب هذين الموقفين هذه المرة اهمية زائدة ووضعهما تحت المجهر ليكبر مفعولهما ويتميّز عن سائر المرات التي قيل فيها هذا الكلام؟

بداية، لا بد من الاعتراف بأن العمليات الارهابية في لبنان وفرنسا لم تمر مرور الكرام، فهي اعلنت بشكل حاسم النية الدولية لانهاء ظاهرة "داعش"، كما فتحت الباب امام التلاقي، فالدماء وعلى الرغم من الالم الذي تخلّفه وراءها، قادرة على ان تجمع ايضاً في احيان كثيرة خصوصاً وان المصيبة التي تجمع قادرة ان تضرب في كل زمان ومكان دون تفرقة.

ولكن، ومع الاحترام لارادة الزعماء اللبنانيين وعزيمتهم ورؤيتهم المستقبلية، لم تكن هذه الاجواء الايجابية السائدة لتظهر لولا الاختراق الذي سجّل في اجتماعات فيينا بعد اعتداءات فرنسا. اعجوبة الايجابية في فيينا سلكت ما نسميه "خطاً عسكرياً" ووصلت فوراً الى لبنان ولم تنتظر اشهراً لتتفجر ايجابياتها ولو ان النتائج المتوقعة والمرتقبة لن تكون بالسرعة نفسها.

اليوم، وضع القطار على سكة التسوية وهو انطلق في رحلته، وسيتوقف عند محطات عدة، لن يكون لبنان خارجها انما موعد وصول هذا القطار قد يستغرق اشهراً ولكن مع فارق اساسي، وهو ان الوضع من الناحية السياسية سيكون مرشحاً للمزيد من الارتخاء وعدم التشنج، وسيكون الجميع في لبنان على الموعد لاستقبال القطار وركابه بالأرزّ والازهار...

(1) بتاريخ 14/11/2015، دعا الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله في كلمته الى الاستفادة من المناخات الإيجابية في البلد للوصول إلى تسوية وطنية شاملة تطال رئاسة الجمهورية والحكومة وتشكيلها وعمل المجلس النيابي، وقانون الانتخاب، مطالبا بعدم انتظار الخارج لأن الخارج منشغل بنفسه. ومشددا ًعلى أنه "رغم كل الصعوبات في البلد لكن يمكننا التغلب على هذا المناخ، إذا ما توفرت الإرادة لدينا".

(2) بتاريخ 14/11/2015 قال رئيس الحكومة السابق سعد الحريري: "ننظر بإيجابية لكل توجه يلتقي مع إرادة معظم اللبنانيين في إيجاد حل للفراغ الرئاسي".

واضاف: "لطالما نادينا بخريطة طريق بدايتها التوافق حول رئاسة الجمهورية. ان البت بمصير الرئاسة هو المدخل السليم لتسوية تعيد إنتاج السلطة التنفيذية وقانون الانتخاب".