لم تتصور اميركا عندما خططت للعدوان على سورية انها ستجد نفسها يوما امام وضع لا تستطيع احتواءه او مشهد ميداني سياسي مركب لا تتحكم هي بمفاتيحه او بأحداثه.
فقد كانت اميركا وبكل بساطة تطلق خطة عدوان جديدة في كل مرة كانت خطة العدوان السابقة تفشل، وتبقى ممسكة بزمام الأمور قادرة على التخطيط المريح وممتلكة لنسبة عالية من احتمالات النجاح، او اليقين بان «العدو» لن يستطيع حسم المواجهة في الميدان ولن يستطيع التقاط أنفاسه في السياسة، وبهذه الرؤية قادت اميركا العدوان على سورية وحشدت له كل ما وصلت اليه يدها من مال وسلاح واعلام ودين مزور، زجته في الميدان متجاوزة كل قواعد القانون الدولي والإنساني فضلا عن قواعد الاخلاق والشريعة.
و فجأة و بعد نيف واربع سنوات و نصف ، شعرت اميركا بانقلاب جذري في المشهد ، انقلاب يتخطى ربح معركة هنا و استعادة السيطرة على منطقة هناك ، ويصل الى رسم خط بياني ينبئ مساره بإنتاج صورة ذات ثلاثة عناوين: الأول ان زمام المبادرة في الميدان انتزع منها و بات بشكل شبه كلي في يد القوى المدافعة عن سورية ، والثاني ان معركة تطهير سورية و تحريرها من الإرهاب و الخارجين على القانون بدأت و بشكل متصاعد واثق ، و الثالث ان القوى التي تشارك في العملية الدفاعية تمتلك قدرات عسكرية كافية و موثوق بها لإنجاز المهمة في غضون اشهر قليلة .
مع هذا اليقين وجدت اميركا نفسها امام خيارين: اما المسارعة الى حل سياسي يحدد خسائرها ويحفظ لعملائها موقعا مؤثرا في حكومة السورية، مع التراجع عن مقولة تنحي الرئيس او تقييده او فقدان موقعه في مستقبل سورية، او احتواء المتغيرات والمراوغة في الميدان والمماطلة في السياسة مع تعزيز قدرات الجماعات الإرهابية المستعملة لتنفيذ العدوان لتمكينها من استعادة المبادرة، ودفع مثلث العدوان الإقليمي ضد سورية الى سلوكيات يستفاد منها وجود قرار بالمواجهة ورفض التسليم بالمتغيرات.
وفي التطبيق ناورت اميركا متظاهرة باعتمادها المسار الأول،فجاء بيان فيينا 1 السوري لينسف كل أحلام المعتدين التي ظهرت في جنيف 1 بما في ذلك التخلي عن المرحلة الانتقالية التي تحلم فيها بترك الرئيس الشرعي المنتخب موقعه ليسلمه الى حفنة من عملاء اميركا و إسرائيل وبقية مثلث العدوان الإقليمي ، وكانت في الحقيقة تسعى للعمل بالخيار الثاني و هنا وزعت الأدوار وانخرط معها بشكل خاص فرنسا و تركيا والسعودية ، حيث عهدت الى كل من هذه الاطراف بمهمة تشي بان لا حل سياسي ممكن في سورية ان لم يستجب لأهداف العدوان الأساسية أي اسقاط سورية من موقعها و تحويلها الى مستعمرة أميركية .
ويبدو ان المهمة التركية كانت الأهم و الأخطر في الخطة الجديدة تلك، ففي حين التزمت السعودية مهمة الرفض للحل السياسي بقيادة الرئيس الأسد ، مع رفع مستوى إمدادها للإرهابيين ، والتزمت فرنسا العمل السياسي التحريضي ، كانت الوظيفة التركية تتمثل بإنشاء منطقه حظر جوي يليها انشاء منطقة آمنة في شمال سورية تجعل للإرهابيين منفذا بحريا على المتوسط ، في عمل اجيز لتركيا فيه استعمال القوة مباشرة ضد الطيران الروسي القائم بعمليات القصف التدميري للبنى التحتية وطرق امداد الإرهابيين كما والاسناد الجوي للجيش العربي السوري القائم بعمليات التطهير و تنظيف سورية من الإرهابيين .
بهذه المهمة نفهم كيف اسقطت تركيا طائرة السوخوي الروسية فوق الأراضي السورية بصاروخ جو-جو أطلق من طائرة أميركية الصنع من طراز ف16 وهي كانت واحدة من طائرتين مقاتلين محميتين أيضا ب أربع طائرات معترضة ومطاردة كانت جميعها في الجو تنصب كمينا للطائرة الروسية لتوجه اليها صاروخا يحمل رسالة قاطعة مفادها: بدأ الغرب بصدد اقامة منطقة حظر الجوي ويتجه لانشاء منطقة امنة للإرهابيين وعلى روسيا ان تسلم بالقرار وتتراجع.
كانت تركيا وخلفها الأطلسي بقيادة اميركا تنتظر سقوط المهمة الروسية في سورية مع سقوط طائرة السوخوي، لتنصرف بعد ذلك الى إدارة حرب استنزاف حددت اميركا مدتها بين 3 و10 سنوات تتآكل خلالها الدولة السورية وتستنسخ فيها الحالة الليبية الراهنة حيث لادولة ولا أمل بإقامة دولة في زمن منظور.
ولكن على أرض الواقع كانت المفاجأة المدوية، التي تمثلت بالرد الروسي العنيف الذي أسقط امال المعتدين واحلامهم ودفع بالأمور إلى وضع لم يتصوروا حصوله مهما كانت الظروف. لقد ردت روسيا بما يؤكد استمرار مهمتها في سورية بشكل افعل و اكثر امنا و أوسع مدى ، فكانت القبة النارية الروسية الحارقة لأي هدف او تهديد معادي لطائراتها او للقوات العاملة في مساندتها ، حيث ان منظومة الدفاع الجوي اس 400 و اس 300 التي نشرت في البر و البحر السوري مضافا اليها اسراب طائرات السوخوي المطاردة و المعترضة التي حطت في مطار حميميم السوري أجبرت تركيا على وقف طيرانها فوق سورية حتى اشعار اخر (و سيكون طويلا جدا) و هكذا و بأقل من ساعات سقط الحلم التركي بمنطقة الحظر والمنطقة الامنة او حتى القدرة على حماية الجماعات الإرهابية المسيرة تركيا .
ولم تكتف روسيا بالرد العسكري الميداني بل رمت في وجه تركيا أكثر من ورقة معاقبة في مجالات غير عسكرية، تضمنت وقف العمل بنظام الاعفاء من التأشيرة، ووقف العمل بنظام التفضيل الذي تستفيد منه الشركات التركية ووقف الحركة السياحية إلى تركيا والتلويح بمرجعة الاتفاقات والتفاهمات الاقتصادية والنفطية وأنبوب الغاز وغيرها مما تستفيد منه تركيا التي شعرت بعد عدوانها ان تورطت بخطأ فادح لن تستطيع ان تخرج من اثاره بسهولة. ولهذا وجد اردوغان نفسه ملزما بتصرفات تراجعية مذلة ومضحكة في الان نفسه.
أردوغان هذا الذي ظن نفسه يوما سلطان بني عثمان الجديد، والذي توعد بعد اسقاط الطائرة بتكرار الفعل ان تكرر الانتهاك الجوي على حد قوله، (رغم ان الطائرة الروسية لم تدخل الأجواء التركية) اضطر للقول بانه «حزين لسقوط الطائرة الروسية وتمنى لو لم تسقط». أردوغان الذي نفذ أوامر اميركا وجد اميركا تتركه لمصيره امام حزمة العقوبات الروسية، أردوغان الذي ظن ان الأطلسي سيهب الى نجدته وجد الأطلسي يبيعه بضع كلمات معسولة في بيان مقتضب لايغني ولايسمن. وبالمختصر أردوغان الذي غدر بروسيا، وجد نفسه امام إعصار روسي يوجه اليه الركلات والصفعات بالحد الذي دفعه الى الندم والحسرة معا بعد ان ضاع حلمه في سورية وضاع موقعه التفضيلي مع روسيا ولم يجن الا الخيبة والإحباط.
اما فرنسا التي كانت تحتل الموقع المتقدم في العداء لسورية فقد وجدت نفسها وبعد صفعة باريس الإرهابية مضطرة عمليا للاقتراب من روسيا في حربها على الإرهاب حتى تحمي نفسها بعيدا عن العمليات الاستعراضية الأميركية المنشطة للإرهاب والمحفزة عليه. ولكن وبما انها لا تستطيع الان التحرر من القيد والاملاء الأميركي فقد باتت في مسار سياسي متقلب متذبذب تقول حينا بوجوب التنسيق مع الجيش العربي السوري ثم تتراجع خوفا من اغضاب اميركا في تخبط يثير السخرية أيضا.
وتبقى السعودية التي وببغائية مملة يردد وزير خارجيتها بشكل ممجوج رفضها لبقاء الرئيس الأسد الذي اختاره الشعب السوري فهي لم تعد تملك القدرة على الثبات على موقف ويكفي ان ننظر الى غرقها في أكثر من ملف وجبهة لنعرف مدى ضمور حجمها وتأثيرها بما يجعل الاهتمام بما يصدر عنها مضيعة للجهد.
وهكذا نستطيع القول بان المواجهة في الميدان السوري ومنه الى المنطقة باتت محكومة بوجود جبهة دفاع متماسكة قادرة تعرف كيف تخطط دفاعها وكيف ترد على جبهة عدوان تترنح وتتخبط تزرع شيئا وتحصد عكس ما أملت منه.