ما زالت تداعيات إسقاط الأتراك للطائرة الروسية تتفاعل يوماً بعد يوم، وتكشف عن درجة الحماقة التي ارتكبها الأتراك في التصعيد العسكري في منطقة تضج بالطائرات المقاتلة والأساطيل الحربية، والتي لا تحتاج إلى أكثر من تصعيد أو إهانة لكبرياء أحد الدول المشاركة لكي تندلع حرب عالمية لن يُعرف مداها وتطورها وكيفية انتهائها.
يراقب حلف شمالي الأطلسي بقلق وحذر التحرك الروسي في سورية، خصوصاً الانتقال من مرحلة عروض التعاون والتنسيق مع دول التحالف الأميركي ضد الإرهاب قبل إسقاط الطائرة، إلى سياسة الهجوم ومحاولة فرض نفوذ أحادي فوق سورية يصل مداه إلى 600 كلم، هو المدى الذي تصله صواريخ "أس 400"، بعد إسقاطها.
واقعياً، منذ قرارهم بالانخراط العسكري المباشر في سورية، بدأ الروس بإرسال القدرات الدفاعية الجوية المتطورة جداً، وكان أعضاء من حلف "الناتو" قد حذّروا في وقت سابق من أن قبة "A2/AD" يتمّ إنشاؤها في شرق المتوسط، وهذا يعني أن الروس يبنون ثالث قبة لهم في العالم، بعد كاليننغراد في بحر البلطيق، وسيفاستوبول (في شبه جزيرة القرم) في البحر الأسود، والتي تمّ إنشاؤها بعد ضم القرم، وأقام فيها الروس منظومة صواريخ "كروز" تغطّي كامل البحر الأسود، والآن يتم إقامة الثالثة في اللاذقية على الشاطئ السوري في البحر المتوسط، والتي أنشأ فيها الروس قاعدة جوية روسية في مطار "حميميم"، وأرسلوا الطراد الروسي "موسكو"، الذي يُلقَّب بقاتل الغواصات، ما يعني إقامة قبة روسية في المتوسط لأول مرة في التاريخ الحديث.
ويشير الخبراء العسكريون إلى أن القبة التي يبنيها الروس في المتوسط، كما القبتان السابقتان؛ تعمل على تحقيق أهداف عسكرية عدّة، أهمها اثنان:
1- السيطرة على منطقة ومنع الوصول إليها، أي أنه منذ الآن فصاعداً على حلف "الناتو" أن يحتسب أي خطوة أو تدخل عسكري له في منطقة النفوذ الروسي في سورية، بسبب "الكلفة العالية جداً"، و"المخاطر غير المقبولة" لأي تدخل أحادي لا يأخذ بعين الاعتبار التنسيق مع الروس، وهو ما تحاول أن تتحداه ألمانيا، حيث أعلنت وزارة الدفاع الألمانية أنها لن تقدّم معلومات لروسيا عن مسار تحليق مقاتلاتها التي سترسلها إلى سورية، لكن الكلام الحقيقي سيكون للميدان وليس للتصريحات غير الواقعية.
2- الحرمان من القدرة على احتلال المنطقة المشمولة بالقبة الدفاعية، وهذا يعني أن أي وجود عسكري في سورية خارج الإرادة الروسية سيكون غير ذي جدوى، ويمكن للروس تعطيله وإفشاله، ومنعه من أي تحقيق أي نتيجة فعّالة على الأرض.
وانطلاقًاً من كل هذا، يمكن فهم التحرك العسكري الأميركي في المنطقة، والذي يركّز على المنطقة التي ينشط فيها "داعش"، خصوصاً في الرقة ودير الزور، والإعلان الأميركي الأخير بأن قوةً أميركية مكلفة بمهمات استشارية ميدانية واستخباراتية، قد تصل في الأيام المقبلة إلى العراق، وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدّل على أن الأميركيين يتحاشون الاصطدام بالروس في سورية، ما يعني أنه عندما تنضج مرحلة التسويات في المشرق العربي، ويقتنع "الناتو" بعدم قدرته على إزاحة النفوذ الروسي في سورية أو تحدّيه بعد اليوم، فإن المنطقة ستشهد تقاسم نفوذ أميركي - روسي مشترك.
وبناء على هذا التصور المستقبلي (والذي يحتاج إلى وقت لتبلوره)، وفي حال لم يفرض الميدان واقعاً مغايراً، نرى أن المنطقة تسير نحو تقاسم نفوذ واقعي بين الروس والأميركيين، حيث تكون سورية ساحة النفوذ الروسي في المنطقة، بينما يكون العراق ساحة النفوذ الأميركية، وتشكّل إيران "عامل التوازن" بين النفوذين، كونها اللاعب الإقليمي الأقوى في الساحتين، علماً أن المخاطر تبقى متعلقة بما يلي:
1- في حال تمّ رسم مناطق النفوذ نتيجة تفاهم أميركي - روسي، فإن المنطقة ستشهد ازدهاراً غير مسبوق، ونهضة إعمارية، وسيتخلص المشرق العربي من الإرهاب وتوابعه، وسيتمّ إضعاف الفكر المولّد له.
2- في حال فرض الميدان واقع النفوذ بدون التفاهم السياسي الأميركي - الروسي، أي في حال لم يقبل الأميركيون بما فرضه الروس من واقع ميداني لمصلحتهم في سورية، واستمروا بمقاومته، فإن منطقة لا بأس بها على جانبي الحدود بين العراق وسورية، ستكون أشبه بقندهار، حيث تتداخل فيها كل تعقيدات الصراع الإقليمي والدولي، وينتشر فيها الإرهاب، ويتعذر إنهاء الصراع فيها، كونها المتنفس الذي ستتنفس فيه كل تلك الصراعات المتفجرة في المنطقة.
لكن، إلى أن يحين أوان التسوية، وهي ليست في المدى المنظور بأي حال، فإن لسان حال الروس وحلفائهم يتعامل مع حادثة إسقاط الطائرة ضمن عنوان "ربّ ضارة نافعة".