ولادة مسودة لائحة حقوق الإنسان :
لم تكن الأمم المتحدة سبَّاقةً في وضع لائحة بحقوقِ الإنسان، إذ سبقها إعلان حقوق الإنسان والمواطن عام 1789، السنة الأولى للثورة الفرنسية. ففيما الإعلان الفرنسي يتكلم فقط على الحقوق المدنية، نجد الإعلان العالمي يتعدى هذه الحقوق ليتناول أيضاً الحقوق الاجتماعية.
أنشأ المجلس الاقتصادي والاجتماعي في حزيران 1946 لجنةً لوضع مسوَّدة للائحة بجميع حقوق الإنسان وحريّاته. قرَّرت الجمعية العمومية للأمم المتحدة مفوضية حقوق الإنسان تأليف اللجنة من ثمانية عشر عضواً ، واختارتهم من الدول التالية : أوستراليا، بلجيكا، بلوروسيا، تشيلي، الصين، مصر، فرنسا، الهند، إيران، لبنان، باناما، الفلبين، أوكرانيا، الإتحاد السوفياتي، المملكة المتحدة، الولايات المتحدة، أوروغواي ويوغوسلافيا . وانتخبوا السيدة إليونور روزفلت – مندوبة الولايات المتحدة – رئيساً للجنة. إتجه عملُ هذه اللجنة بدايةً نحو دراسة المقترحات والتوصيات والتقارير التي قدمتها الدول والمنظمات وبعض الأفراد إلى المجلس الاقتصادي والاجتماعي بشأن " بيان دولي بالحقوق "، ومن ثمَّ نظَّمت تلك الحقوق في وثيقة خاصة.
بعد طريق طويل بين النقاش الأوَّل والمسوَّدة النهائية، أسفر عن اعلان أوَّل مسوَّدة لبيان دُولي بحقوق الإنسان من قبل الأمانة العامة الدُولية للأمم المتحدة، شملت هذه المسوَّدة أكثر من 400 صفحة . لكن هذه المسودَّة كانت خلاصةً، ليس فقط لمئات المقترحات التي تقدمت بها حكومات ومنظمات خاصة وأفراد، بل ايضاً للقوانين وللممارسات التطبيقية في مختلف الدُول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة.
دارت النقاشات الأولى حول طبيعة حقوق الإنسان. أهي أصيلة أم مشتقة أي هل هي فطرية تولد مع الإنسان أم يكتسبها فيما بعد، ومن خلال هذا الحديث ظهرت مدرستان : مدرسة القانون الطبيعي المستمد من العقل وطبيعة الإنسان ومدرسة القانون الوضعي المشرَّع من قبل السلطات الاجتماعيّة لوجه المصلحة العامة . كما عرض د. شارل مالك أربعة مبادىء لتبحثها اللجنة، وظهرت بعدها عدَّة مواقف منها : موقف الإتحاد السوفياتي، موقف الهند، موقف بريطانيا، موقف فرنسا، وتعليق مندوب الولايات المتحدة. ومن ثَمَ علّق د. مالك على كل تلك المواقف والتعليقات.
اجتمعت لجنة وضع المسوَّدة لمراتٍ عدَّة لتأخذ بعين الاعتبار الملاحظات والمقترحات التي قدَّمتها إليها الحكوماتُ المختلفة ولجنة حقوق الإنسان. فبعد أن ناقشت لجنة الصياغة بالتفصيل مسودَّة تصميم الأمانة العامة، شرع البروفسور رينيه كاسان – مندوب فرنسا – بضبطها قانونياً وسبكها في إطار قانوني.
خلال اجتماعات لجنة حقوق الإنسان، توالى على تمثيل الاتحاد السوفياتي أربعة سفراء شاركوا إلى جانب الآخرين في أعمال تلك الاجتماعات، وأصرّوا على اللاتمييز المطلق، وعلى تحسين الظروف المعيشيَّة للجماهير البشرية، ثمَّ على واجبات الإنسان تجاه المجتمع، وعلى الدور الحاسم الذي يتعيَّن أن تؤدّيه الدولة لضمان الحقوق والحريات الإنسانيَّة.
بعد كلّ ذلك، قررَّ المجلس الاقتصادي والإجتماعي خلال اجتماعه في جنيف في أيلول 1948 إحالة نص المسوَّدة الأخير إلى الجمعية العمومية لمناقشة مسوَّدة الإعلان والتصويت عليها بُغيَة إقرارها.
وجدير بالذكر، أنَّ الاتحاد السوفياتي والكتلة الشرقيَّة إضافةً إلى الدول الأوروبيَّة التي تولّت الحكم فيها الأحزاب الاشتراكيَّة والاشتراكية الديمقراطيَّة والعمَّاليَّة، أصرّوا على إدخال الحقوق الاجتماعية ضمن لائحة الحقوق. أما أميركا، فترددت في إدخال الحقوق الاجتماعية على اللائحة حين أصرَّت على إدخال الحقوق المدنية والسياسية فقط. وأخيراً اتفقت كلّ الدول على أن تتضمن لائحة الحقوق الإنسان جميع الحقوق بما فيها الحقوق الاجتماعية والمدنية والسياسية والثقافية.
إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
التأمت الجمعية العمومية للأمم المتحدة في 9/12/1948 في " قصر شايو " في باريس للتصويت على مسوَّدة الإعلان. وفي العاشر منه أُقرَّ النص النهائي في الدورة الثالثة للجنة، بدون أي صوتٍ معارض بالرغم من الاختلافات العرقية والفلسفية والدينية ومفهوم كل مندوب دولة للإنسان.
وهكذا بعد عملٍ دام أكثر من سنتين، وبعد مشاركة ثمانية وخمسين مندوباً من دولٍ مختلفةٍ، تمَّ إعلان " الإعلان العالمي لحقوق الإنسان " الذي أقرَّته الهيئة العامة للأمم المتحدة في 10 كانون الأوَّل من سنة 1948.
يصف د. مالك كيفيَّة إقرار الجمعية العموميَّة للإعلان فيقول : " في العاشر من كانون الأول 1948، جرى تصويت بالمناداة في جلسة مكتملة للجمعية العموميَّة للأمم المتحدة في " قصر شايو " في باريس. غاب عن اللقاء ممثلا دولتَين . ومن أصل الممثلين الستة والخمسين الحاضرين، قال ثمانية وأربعون " نعم "، وثمانية " امتنعوا ". ولم ينطق صوت واحد بكلمة " لا " .
ذهبت وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أبعد من أي وثيقة سابقة حول حقوق الإنسان. فتبقى ميزتها الأساسية أنَّها نقلت حقوق الإنسان من الحَيِّز الفلسفي الجدلي إلى الحيِّز القانوني الدُولي المُلزِم بعد إقرار الإعلان في 10 كانون الأول 1948.
إنَّ الإعلان العالمي لحقوق الإنسان معيار موضوعي معطى يزن ويعين مقدار الإنسانيَّة ومقدار الحريَّة الموجودَين بالفعل في أي إنسان وأي مجتمع وأي تراث .
مضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان :
يتألَّف الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من ديباجة (من سبعة مقاطع) يليها ثلاثون مادة أساسيَّة. ففي الفقرة الأولى من الديباجة : " لما كان الإعتراف بالكرامة الأصيلة في جميع أعضاء الأسرة البشرية وبحقوقهم المتساوية الثابتة هو أساس الحرية والعدل والسلام في العالم" ، نجد تعريفاً وفكراً قانونياً وفلسفياً لحقوق الإنسان. أما الفقرة الثانية : " ولما كان تناسي حقوق الإنسان وازدراؤها قد أفضيا إلى أعمال همجية آذت الضمير الإنساني، وكان غاية ما يرنو إليه عامة البشر انبثاق عالم يتمتع فيه الفرد بحرية القول والعقيدة ويتحرر من الفزع والفاقة " ، التي تقدِّم مختصراً للإعلان باستعادة الحريات الأربع التي تضمنها خطاب الرئيس روزفلت - أمام الكونغرس عام 1940 – وهي : حرية الرأي، حرية العقيدة الدينيَّة، (حرية) التخلُّص من العَوَز Freedom from Want و(حرية) التخلُّص من الخوف Freedom from Fear.
ويلاحظ أن فقرةً مهمّة أسقطت من الديباجة في اتفاقيات 1966. هذه الفقرة وهي الثالثة تنص : " ولما كان من الضروري أن يتولى القانون حماية حقوق الإنسان لكيلا يضطرَّ المرء آخر الأمر إلى التمرد على الاستبداد والظلم "، لهذه الفقرة أهمية كبرى لأنَّها النصّ الوحيد في القانون الدُولي الذي يجيز الحق بالثورة.
أما مَتنُ الإعلان فيتكوَّن من ثلاثين مادة تقسم من حيث الموضوع على الوجه التالي :
المواد 1 – 4 : مواد أساسيَّة عامة.
المواد 5 – 11 : تتناول الحقوق القضائيَّة.
المواد 12 - 21 : تبسط الحقوق المدنيَّة والسياسيَّة.
المواد 22 – 26 : تحدِّد الحقوق الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، التي تشكِّل محور دراستنا هذه.
المادة 27 : تتناول الحقوق الثقافيَّة.
المادة 28 : تتكلَّم على نظام دُولي يساعد على تأمين هذه الحقوق والحريات.
المواد 29 – 30 : مواد تنظيميَّة خاصة بالفقرة (2) من المادة 29 التي تبسط الأحوال التي تجيز تعليق الحقوق والحريات حفاظاً على الإنتظام العام ضمن قيود صارمة .
بشكلٍ مختصر، هذا هو مضمون الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي أكَّدت فيه شعوب الأمم المتحدة إيمانها بحقوق الإنسان الأساسيَّة وبكرامةِ الفرد وقدره وبما للرجال والنساء من حقوق متساوية .
هكذا بدأت التشريعات الاجتماعيّة، ودخلت إلى القانون الدولي العام بعد أن كانت ذات طابع محلي فقط. ومع تطور هذه التشريعات، تطورت الحقوق بشكلٍ عام وخاصةً الاجتماعيّة منها وأصبحت جزءاً من شرعة حقوق الإنسان العالميّة.
وافق لبنان على هذه الشرعة، وأصبح ملزماً بتنفيذ بنودها بالكامل. لذا نجد أن هذه الحقوق هي مطلبٌ وحقٌ لكلّ مواطن أن يحصل عليها، ولهذا نشدِّد ونطالب بتنفيذ هذه الحقوق وبحمايتها لتأمين حياة ملائمة لكل شخص داخل المجتمع.