منذ اندلاع الأزمة الروسية التركية الأخيرة عقب اسقاط طائرة السوخوي الروسية، وما اعقبها من تهديدات متبادلة، اتجهت أنظار الخبراء والمحللين فوراً الى مضيق البوسفور الذي قد يتحول من نعمة إلى نقمة على تركيا.
وبالفعل لم تمض أيام قليلة إلا وبدأت الإشكالات، من إحتجاج تركي على جندي روسي يحمل صاروخ ارض جو على متن سفينة حربية روسية، متجاهلين أنها سفينة حربية مدججة بالأسلحة، وصولاً الى حادثة اطلاق النار تحذيريا من سفينة حربية روسية على أخرى تركية تجارية إقتربت منها أكثر من اللازم.
عقدة المضيق
شهدت القرون الخمسة الماضية ثلاثة عشر حربا روسية تركية، وبالأحرى بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، اللتين كانتا متقاربتين في القوة، على غير ما هو الواقع الحالي.
وكانت روسيا قد فرضت على تركيا السماح للسفن الروسية المرور في مضيقي البوسفور والدردنيل في حالتي الحرب والسلم، وذلك في معاهدة سان استيفانو سنة 1878 التي جاءت بعد خسارة تركيا حربها مع روسيا، والتي تضمنت شروطاً مذلة للدولة العثمانية، قيل أن المندوب العثماني صفوت باشا بكى عند التوقيع عليها تحت ضغط القوات الروسية التي كانت تدق ابواب اسطنبول، وانتزع بموجبها اراضي بلغاريا ورومانيا وصربيا والجبل الأسود من السيطرة العثمانية ومنحت إستقلالها.
في تلك الحقبة كان مجرد ارسال بضع سفن حربية انكليزية الى ميناء اسطنبول كفيلاً بردع الروس عن رغبتهم ذات الجذور الدينية الدفينة باستعادة اسطنبول واعادتها الى ما كانت عليه: القسطنطينية عاصمة الارثوذكس الروحية. يومها كانت بريطانيا تلعب دور شرطي العالم الذي تلعبه الولايات المتحدة اليوم، ولم تكن روسيا كحالها اليوم.
لقد ادرك الحلف الأطلسي أهمية الموقع التركي، ويعتقد أن وجود مضيق البوسفور في الأراضي التركية، كان بطاقة دخول تركيا الى الحلف، لأنه ببساطة المخرج الوحيد للبحر الأسود المغلق طبيعياً، لذا عملت الدول الغربية على اعادة تنظيم المرور فيه من خلال اتفاقية مونترو 1936، التي اقرت حرية التنقل عبر المضيق الا انه يحق لتركيا اقفاله في حال الحرب فقط بوجه السفن العدوّة، في التفاف على مطالبات الإتحاد السوفياتي وقتذاك بوضع مضيقي البوسفور والدردنيل تحت سلطة دولية مشتركة تضمن حرية الملاحة في الحرب والسلم.
وفي سنة 1994 تخلصت تركيا جزئيا من التزاماتها الدولية عندما أقرت لوحدها قواعد جديدة لحركة السفن في المضيقين تسمح لها بإغلاقهما، في غير حالات الحرب، متجاهلة الإعتراضات الدولية.
بالرغم من إعلان كل من روسيا وتركيا أنهما لا تريدان الحرب، إلا أن تصرفات الرئيس التركي رجب طيّب أردوغان ورجاله لا يسهل توقعها، ولأنهم ينطلقون من خلفية إسلامية عثمانية، فإنهم لا يتخذون قراراتهم إستناداً الى واقع الحال، بل إلى أحلام إستعادة مجد السلطنة العثمانية، والخلافة الإسلامية، وهذا الطاقم يعاني نوعاً من الإنفصال عن الواقع، حاله كحال الرئيس المصري السابق محمد مرسي وجماعته. ولنا عبرة في صورة أردوغان المزهو بنفسه بين حرس الشرف في قصره البسهم أزياء قتالية تمثل كل منها حقبة عسكرية عثمانية، هذه الصورة التي عزا وفخراً، استجلبت له السخرية من انحاء العالم، مذكراً العالم بتصرفات معمّر القذافي الغريبة.
إن إصرار اردوغان وحكومته على مواصلة اطلاق التهديدات، يضاف إليها أي حادث تصادم عسكري خطير مثل حادث طائرة السوخوي الروسيّة، قد يؤدي الى جر البلدين الى حرب لا يريدانها. وليست من مصلحتهما.
ماذا لو وقعت الحرب؟
تعلمنا من الحربين العالميتين الماضيتين أن الحرب تبدأ من حادث لا يبدو أنه يستأهل حرباً عالمية، وحتى الدول المنخرطة فيها، لم تقدّر انها ستطول الى هذا الحد. وتشكل هذه الحرب فيما لو وقعت إختباراً حقيقياً للعالم أجمع في قدرته على تجنب الكابوس الأسوأ، في وقت يستسهل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استخدام مصطلحات الأسلحة النووية في خطاباته، فتارة يأمل أن لا يضطر لإستخدامها ضد داعش، وتارة يدعو الى تعزيز القدرات النووية في هذه المرحلة، وفي المقابل تقف دول الحلف الأطلسي خلف تركيا " ظالمة أو مظلومة" .
لقد سبق للعالم أن اختبر عناد الروس في حرب جورجيا، ووقف حلف الأطلسي حائراً متردداً حيال استغاثات ربيبه قائد ثورة الورود الرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي عندما اجتاح الجيش الروسي بلده وفرض رغماً عن العالم أجمع استقلال مقاطعتي اوسيتيا الجنوبية وابخازيا عن جورجيا، واقتصر دعم الاطلسي على تزويد جورجيا ببعض الأسلحة. ولم يجرؤ على التدخل المباشر.
فهل سينجر الحلف الأطلسي الى الحرب مع روسيا لإنقاذ تركيا؟ ام سيكتفي بالتفرج كما فعل في حالة جورجيا؟
الوضع شديد التعقيد ولا يسهل التكهن بما سيجري، فمن ناحية، الحلف ملزم بالدفاع عن تركيا بصفتها عضواً فيه، على عكس جورجيا التي لم تنضم الى الحلف. ومن ناحية أخرى الحرب مع روسيا لن تكون الا نووية وشاملة الى كل بقعة تطالها الصواريخ العابرة للقارات، هذا يعني نهاية العالم كما نعرفه. وإذا كان هناك قدر من التعقل لدى قادة الطرفين، يمكن القبول بضربات ثأرية موضعية، وابتلاعها دون الإنجرار الى الحرب، على أن تحصل مفاوضات تتيح العودة الى حال السلم بين البلدين، لأن إحتجاز الأسطول الروسي في البحر الأسود إضافة الى مئات السفن التجارية، لهو أمر ينال من هيبة الدولة الروسية ويهدد أمنها مباشرة، وسيحملها على العمل بكافة الوسائل لفك الحصار، ففي قاموس الدول الكبرى لا وجود للقانون الدولي بمواجهة الاخطار المهددة للمصالح الاستراتيجية.
وقد سبق لفرنسا وانكلترا ان شنتا حرباً على مصر التي كانت تحت قيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر سنة 1956 فيما عرف بحرب العدوان الثلاثي، لمجرد اعلانه تأميم قناة السويس، أي طرد الشركة البريطانية المشغلة للقناة، وتولي عملية التشغيل محلياً.
كذلك شنت الولايات المتحدة حروبا عدوانية على العديد من الدول والأنظمة تحت شعار حماية المصالح الأميركية.
الخيارات الروسية البديلة
بما أن روسيا أيضاً لا ترغب بحرب تضعفها وتعمق جراحها الإقتصادية، حتى لو كانت الحرب مع تركيا فقط، فإن لديها بدائل سهلة نسبياً تغنيها عن المرور في مضيق البوسفور، هذا في حال ابتلعت إهانة منع سفنها الحربية من عبور المضيق.
1- الخيار الأول:
طريق ينطلق من بحر قزوين الى الأراضي الإيرانية، ليعبرها إلى الخليج الفارسي ومنه بحراً إلى سوريا مروراً بالبحر الأحمر وقناة السويس فالبحر المتوسط. وهذا الطريق أطول بمرتين على الاقل من طريق البوسفور الا انه آمن تماماً. ولعل هذا الوضع الإستراتيجي المستجد قد يضع خيار استعجال تحرير الأنبار ودير الزور على الطاولة مجدداً، ففي هذه الحالة يصبح الطريق برياً من ايران الى سوريا عبر العراق.
2- الخيار الثاني:
الطريق البحري الممتد من سواحل روسيا الشمالية الواقعة على بحر بارنتس، والملتف حول القارة الأوروبية، مروراً بمضيق جبل طارق، وصولا الى مياه البحر المتوسط فالشواطئ السورية.
3- الخيار الثالث:
الجسر الجوي الذي يمر فوق الطريق الذي سلكته صواريخ كاليبر الروسية من فوق بحر قزوين، فالأجواء الشمالية لإيران، ثم العراق فسوريا. وتملك روسيا اسطولاً من طائرات الشحن العملاقة، مثل طائرات أنطونوف إيه -120، القادرة على حمل 150 طن. وقد فاجأت روسيا العالم الذي إعتقد أنها ستستقدم صواريخ S300 بالبحر بعد حادثة اسقاط الطائرة، وهو ما يستغرق اسبوعاً على الأقل. فأحضرت طائرات أنطونوف الصواريخ خلال يومين الى مطار حميميم في اللاذقية.