كما كان متوقعاً، اتى الرد الروسي على تركيا حول اسقاط الطائرة الروسية "سوخوي 24" ومقتل الطيار الروسي، بشكل متصاعد ووصل الى حدود وضع الاصبع على الجرح، واكثر ما تخافه تركيا: الانقسام الداخلي.

كانت أنقرة تتحمّل على مضض كل انواع الردود الروسية حتى الآن، والتي تفاوتت بين قطع الاتصالات بين الرئيسين والغاء لقاءات مقررة سابقاً بينهما، وتوتر تجاري واقتصادي، وتبادل اتهامات وتراجع التعاون العسكري... ولكن الامور اتخذت منحى اقسى واكثر حساسية حين قررت موسكو الانتقال الى مرحلة اعلى من "العقاب".

لم يأت استقبال التركي المعارض ​صلاح الدين دمرداش​ في موسكو من فراغ، فزعيم حزب الشعب الديمقراطي التركي استقبل بحفاوة كبيرة واجرى محادثات مع وزير الخارجية الروسي ​سيرغي لافروف​، اضاف الى كونه وجّه انتقادات مباشرة للحكومة التركية على خلفية اسقاط الطائرة الروسية، وتلميحه الصريح بوجوب عدم معاداة ​روسيا​.

هذه "اللكمة" جاءت بعد "الصفعة" التي تلقتها تركيا على الصعيد الدبلوماسي، اذ وجدت نفسها وحيدة في خطوة اقدمت عليها بارسال جنودها الى شمال العراق (بعشيقة شمال الموصل)، ولاقت ردوداً قويّة من العراق ودول العالم مطالبة اياها بسحب هذه القوات لانها موجودة دون رضى العراقيين. ولم تجد تركيا حرجاً من المماطلة بالقول حيناً انها ستسحب هؤلاء الجنود، وحيناً آخر بأنهم سيبقون حتى تحرير الموصل، ولكن المسؤولين الاتراك في كلا الحالتين باتوا محرجين.

وفي عودة الى دمرداش، لم يكن من السهل على الرئيس التركي رجب طيب اردوغان ان يرى احد اخصامه السياسيين يتمتع بهذا القدر من الاهتمام من احدى الدول التي باتت الاكثر فعالية في المنطقة، وأحد اللاعبين الرئيسيين في تقرير مصير الشرق الاوسط. والاخطر من ذلك ان حلم اردوغان باستعادة امجاد الامبراطورية التركية بات في خطر، فحين يتم تهديد هذه الامبراطورية من الداخل لن يكون بعدها من الممكن اكمال المخطط او المشروع الذي تم وضعه، قبل اصلاح الضرر، اذا ما كان هناك من مجال لاصلاحه.

الرسالة التي ارادت موسكو ارسالها عبر دمرداش بسيطة، ومفادها ان الروس يحملون بين ايديهم مفتاح مستقبل اردوغان ويمكنهم عند الضرورة ان يهزوا عرشه، ولن تفيده النتيحة التي حصل عليها في الانتخابات الاخيرة لانها يمكن ان تتغيّر وفق معادلات جديدة ومعطيات قد تجعل الاتراك يعيدون التفكير مجدداً وبقوة بمستقبلهم وما اذا كان اردوغان قادراً على ايصالهم الى حيث يريدون.

الرسالة تفيد ايضاً بأن اللجوء الى الاتحاد الاوروبي لن يكون من طائل له، لان وعود الاوروبيين بضم تركيا الى الاتحاد مجرد كلام لا يستند الى واقع، وتحديداً في هذا الوقت الذي يمرّ فيه الاتحاد في ادق مرحلة له وهو مهدد حتى بعدم الاستمرار، اضافة الى توجّس الاوروبيين من المسلمين فيما اردوغان يصعّد الوتيرة بإبعاده انقرة عن العلمانية. ولاقت هذه الورقة الروسية صدى اكبر بفعل ما صرّح به وزير الدفاع التركي عصمت يلماز(1) وادى الى اللعب على الوتر الطائفي بين السنّة والشيعة، لان كلامه اظهر وكأن تركيا هي المدافع عن السنّة في العراق وربما في المنطقة، في وقت يجهد الغرب لابعاد شبح المواجهة السنّية-الشيعية عن المنطقة عموماً وعن العراق بشكل خاص.

لا شك ان روسيا بقيادة رئيسها فلاديمير بوتين تتقن فنون الحرب الباردة بحذافيرها، وهي حالياً تلعب هذه اللعبة مع تركيا التي لا خبرة لها في هذا المجال، فكيف ستنتهي المواجهة؟

(1) بتاريخ 22/12/2015، توجه وزير الدفاع التركي عصمت يلماز الى البرلمان التركي بالقول انه في وجه الهجوم الذي شنته "داعش" على الموصل، "فإن الجيش العراقي المؤلف في معظمه من الشيعة، لم يهتم بالموصل وهي ذات غالبية سنّية ولم يعتبرها ارضاً عراقية، ولم يطلق حتى رصاصة واحدة للدفاع عن هذه المنطقة".