مع المسيح لم تبق الرّحمةُ مجرّدَ صفةٍ أو شعورٍ أو رمزًا للرّقّةِ والعطفِ والرأفةِ، بل تجسّدت في ميلاد ابن الله الذي عكس رحمةَ الآبِ السماويِّ على بشريّتِنا. فإن كانت الرحمة تقتضي إيصالَ الخير إلى الغير، حتّى وإن كان فعلُ الخير هذا مكروهًا من قبله، فلنتأمّلْ في رحمةِ الله التي يعاملُ فيها مخلوقاتِه بدءًا من فعلِ خلقِه الإنسانَ وصولاً إلى الرأفة بالإنسان بعد كلّ زلّة أو بعد كلّ عملٍ إنطفأت فيه شُعلةُ المحبة لنَفهمَ صِغَر أعمالِنا أمام عظمة الرّحمة الإلهيّة التي لا تكلُّ ولا تنضَب.
هذا ما أكّده البابا فرنسيس في افتتاحِه سنة "يوبيل الرحمة" في الثامن من كانونَ الأول من هذا العام، في زمنِ الأعياد بدءًا من عيد الحبلِ بلا دنس ولغاية العشرين من تشرين الثاني 2016 عيد يسوع المسيح ملكِ الكون، بقوله: "يسوع المسيح هو وجه رحمة الآب. يبدو أن سرّ الإيمان المسيحي قد وجد ملخّصه في هذه الكلمة". فلقد شعر البابا، إبنُ البيئةِ الاجتماعيّةِ الفقيرةِ، بعد قراءةِ أحداثِ العصرِ الفائت وما حمله من حروب واضطهادات، وبعدَ النظر إلى التطوّر التكنولوجيّ والتبدّل الاجتماعيّ والاقتصادي والسياسي، ومشاهدة نشأةَ حربِ إلغاءِ الآخر والحقد والكراهية تحت شعائر التعصّب الديني على أشكاله، شعر أنّه لا بدّ أن ننظرَ مجدّدا بـ"عيون الرحمة" التي تتبنّى إنسانيّةَ الإنسانِ كحدود لها. فكما أنّ الإنسانيّة قائمةٌ على الرحمة، هكذا تفقد المسيحيّة ميزتها وهويّتها إذا لم تقم على الرحمة. فالرحمة ارتقت من مستوى الاسم إلى مستوى الفعل والحركة: حركة الوجه، والنظر، والجسد والكلمة... حركة الإنسان في كلِّ أبعاده، إلى أن يصبحَ مسيحًا آخر.
من هنا أصبحت الرحمة "حيّةً ومرئيّة وبلغت ذروتها في يسوعَ الناصريّ... الذي يُظهر رحمة الله من خلال كلمته وتصرفاته وحضوره الذاتي الكامل" (يوبيل الرحمة). وما عاشه يسوعُ يومًا على هذه الأرض، على كلّ منّا أن يعيشَه بدوره ليكونَ مشاركًا في عمليّتَي التجسّد والفداء، ويتحوّل إلى وجه رحمة يسوع.
ووجه الرحمة هذا يلتقي مع وجه الله في العهد القديم الذي أظهر اسمه لموسى كـ "إله رَحيم ورَؤُوف، طَويلِ الأَناةِ كَثيرِ الَرَّحمَة والوَفاء"(خروج 34، 6)، ومع الله في الإسلام: "رَبِّ الْعَالَمِينَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(الفاتحة: 2-3). فكم نحن محتاجون رحمةَ هذا المولودِ الإلهي اليوم أكثر من أيّ وقت مضى. كم نحن بحاجة لأن يضمّدَ بحنانِه جراح البشريّة التي تئنّ تحت وطأةِ الأنانية والكبرياء واللامبالاة. فدعاؤنا نرفعه اليومَ قائلين: "أكمل كشفَ طبيعتِك لنا يا رحمةَ الآب لبشريّتنا كما كشفتها عبر التاريخ لتُظهرَ لنا حبَّك بشكل نهائيّ".
فأين نحن اليومَ من حدثِ التجسّد ومن هدف الميلاد؟ أين لبنانُ من نشيدِ الملائكة التبشيريّ؟ أين سياسيّونا من تحقيق العدالةِ والسلام؟ أين شرقُنا من المحبّةِ والتعايش؟ أين كلُّ واحدٍ منّا من رجاء زكرّيا وتواضعِ أليصابات، من عبادة المجوسِ وشهادةِ الرعاة؟ من صلاةِ حنّة وبرارةِ سمعان الشيخ في الهيكل وتقواه ونبوأتِه؟ من تسليمِ يوسفَ، وصمتِه وثقتِه؟ من طاعةِ مريمَ وإيمانِها وقدسيّتِها؟ ولكن على الرغم ممّا نعيشه اليوم، كلّنا إيمان بأنّ رسالةَ الميلاد لم ولن تموتَ، بأنّ الخلاصَ لا يتمُّ إلاّ بيسوعَ المسيح منبعِ سعادتِنا وفرحِ حياتِنا وهو وحدَه القادرُ على أن يُزيلَ القلقَ من نفوسِنا الثائرة والمُضطربة. فأنِرْ يا ربُّ عقولَنا من أنوار مغارتك المتواضعة وأشعل نار حبّك في قلوبنا الجافة لنكون بدورنا مشاركين في ميلاد الرحمة هذا العام. فماذا ننتظر إذًا وإلى متى، لنكونَ تلك الشعلةَ التي توقدُ نارَ التغيير النابعة من إيمانٍ بإله تجسّد ليؤلّه الإنسان.
* مدير جامعة سيّدة اللويزة- فرع الشوف