غياب المطران غريغوار حدّاد، في الزمن اللبناني والعربي المأزوم، يترك لدى أصدقائه ومُحِبّي فكرهِ، مخاوفَ مشروعة، حول خطر تنامي الأصوليات الإرهابيّة، وتراجع منسوب المواطنة والفكر المدني والعروبة، لصالح الإنزواءات التكفيرية، التي تلبسُ لبوسَ الدين، فتقتلُ بإسمه، وتكفِّرُ، وتهجِّر، وتُبيدُ طوائفَ، وتسحلُ إتنيّات، وتَمْحي أقليّاتٍ من الخارطة العربية، الجيوبوليتيكيّة، بدمٍ باردٍ، وعقلٍ قاحل، وليس بين العرب، سياسيين وكُتّاباً ومثقفين وشعباً، مَنْ يرفعُ الصوتَ واليَدَ مَنْعاً أو إعتراضاً على موبقاتِ وجرائم وفظائع الحركاتِ التقتيليّة والعنفيّة... التي تغتالُ الدينَ، وتقتلُ النَّاسِ بإسمه!
المطران الأبيضُ، الذي أغلقَ عيْنَيْهِ على مشهدياتٍ سوداء وحمراء، في المسرح العربي، لَمْ تَقْوَ الأحداث والممارساتُ الطائفية والحزبيّة العصبيّة بِكلِّ الوانها، أنْ تحيدَ به عن إيمانه الصلب، بأنَّ الحلَّ لكلّ مشاكل المجتمع التعدّدي المُتَشَظّي، والتخلّص من رُهابِ جُنونِ الرجعيّةِ وإرهاصات التكفير، هو بإعتماد وتطبيق مبادئ "العلمنَة الشاملة"، كَيْ لا يقع المجتمع المدني اللبناني، الذي حمله المطرانُ في قلبه وعقله، في شَرْكِ المؤامراتِ القاتلة، التي نصبها له أعداءُ الصيغة اللبنانية، ومُكَفِّرو فِكْرَةِ "المواطنة" ومَفْهوم "العلمنة"، بهدفِ الوصول الى حالاتٍ دائمةِ الصدامِ، وقَتْلِ كلّ حِسٍّ بالتوافق والتلاقي والحوار بين أبناء الوطن الواحد.
لقد نجح غريغوار حدّاد، في مسيرته ومساره، أن يرسمُ صورةً مثالية للوطن والمواطن، على قاعدة إحترام كرامة الإنسان، وحرِّيته، وحقِّهِ بالحياة، وَحَرِّض الناس على ممارسة "الإيمان الأبيض" الذي يعتبر المؤمن "إبناً" لله، لا "عَبْداً" له، مُصِرّاً، أن محبّةَ الرًّبِ، تبدأُ بمحبّةِ الإنسان... ولعلَّ هذا الإصرارَ على إحترامِ إنسانيّةِ الإنسانِ، والسعي الى تخليصه من قيود العبوديّة الطائفيّة والحزبيّة والطَبَقِيٌة، والرِقِّ الديني، الذي يمارسه بعضُ القوّامين على "المؤسسات الدينية"، هو الذي جعل غريغوار حدّاد يُوقِفُ نَفْسَهُ وجهوده الميدانيّة والكتابية والفكرية واللاهوتية، من أجلِ خَلْقِ إنسانٍ حرِّ وكُلّيِّ الكرامة، على صورة، مسيح الفقراء الذي جاء لإنقاذنا من الشرّ المُطْلَق، فهدم منصّاتِ الصيارفة القابضين على مصائر الخائفين الى الله، ودَكًّ مفاهيمهم، لأنهم تجرّأوا على إستغلال بوابات الدين وتسخيره لأهوائهم ونزواتهم، وكأنهم الحاكمُ العالي، والوالي المُطْلقُ، والديّان غيرُ المُرْتَدِّ الكلمة.
كانت مشكلة المطران غريغوار، مع أهل الدين، كلِّ دين، الذين إمتهنوا فَنَّ التِجارة بالدِّين وأبناء الإيمان، وراحوا يستغلّون مواقعهم، لفرضِ سلطتهم وسطوتهم، بعيداً عن روحانيات التعاليم الصحيحة، تاركينَ الشعبَ يتخبَّطُ في مشكلاته المعيشية والاجتماعية، وكأن النَّاسَ، لا يعنونَ لهم أيّ شيء في جدول مهامهم ومسؤولياتهم...
حَسْبُهُ، هذا المطران المفكِّر، أنه ميَّزَ عميقاً، في خلال ممارسة كهنوته الميداني، بين نوعين من السلوك الكهنوتي:
1-كهنوت السلطة؛ الذي يمارس السلطة المطلقة بعيداً عن روحيّةِ الرَّب، وصِحّة التعاليم الدينية، الخادمة للإنسان...
2-وكهنوت المسؤولية؛ وهو الفكرُ الأبيض الإنفتاحيُ، بطبعه الإنكساري والفُقْري، الذي ينظر الى "المناصب"، من حيثُ هي منصّةٌ للخدمة، لا للتسلُّط والإستبداد، والمظاهر الدنيوية...
وعندما أطلق الأبونا غريغوار، ثورته على الظلم والفقر، والإستبداد، ونزلَ على الأرض ليصرخ بوجع الناس، رأتْ المرجعيات الدينية والسياسية القابضة على الابدان والارواح، أن في دعوته رائحة "بلاغٍ رقم واحد"، مُهَدِّدٍ لكيانيّتهم ومواقعهم التسلّطية... فعارضوه، وضايقوه، وحاولوا تكفيره، تماماً، كما دواعشُ الأمس، كما دواعش اليوم... لكن الحقّ قال كلمته وانتصر الله للفكر الأبيض في كنيسته... فبقي غريغوار... وزال كثيرون!
كان مسيحياً لابساً للمسيح، وعلمانياً محبوباً من كلّ الطيّبين وأهل النقاء!
أصدقاءُ فكره، هم الذين فهموه بعمق!
واعداء فكره، هُمُ الذين رأوْا فيه ثورةً وإنقلاباً عليهم وعلى مغانمهم وكراسي سلطتهم ومناصبهم...
نَحْنُ، أعداءَ أعدائه... نصْفنُ في وداعه و نتكّئ على دمعنا، وفي لحظة نستودعه رحمةَ اللّه، نقول:
إن الراحل الكبير، غابَ بكلِّ بياضهِ.
هو الأبيضُ بقوله
الأبيض بفكره
الأبيض بسلوكاته
الأبيض بلاهوته
الأبيض بطلّته
الأبيض بهَيْبتِه
الأبيض بفلسفته
الأبيض بعلمنته
الأبيض بفَقرِه
الأبيض بنذوره
الأبيض بصلاته
الأبيض برجائه
الأبيض بإيمانه
الأبيض بمسيحيته!
الأبيض الكامل النّقاء... وأكثرُ أكثر!
ورؤيته الخاصّة الى مسيحيّة الواقع، تنطلقُ من تمييزٍ أبيضَ دقيق، بين:
"مسيحيّة المسيح"، و"مسيحيِّةِ المسيحيين"!
هذه "الرؤية"، ليسَتْ "رؤيا"!
وكُلّنا معنيّون بهذه "العقيدة البيضاء"، والإنتصار لها، ونشرها، على طريقةِ المطران الأبيض وسلاميّته العلمانيّة الشاملة.