في زمن الميلاد المجيد، الذي شاء فيه المخلص ان يولد طفلاً صغيراً ليعلّمنا قيمة وأهمية الاطفال (وقد ركّز السيد المسيح في حياته على الارض ايضاً على مدى محبته للاطفال)، لا يزال في لبنان اطفال يتخذهم الكثيرون رهائن بكل ما للكلمة من معنى، ولسان حالهم: هل من ينقذنا من مصيرنا المشؤوم؟
لا يمكن اعتبار الامر مبالغة، وهو يطالعنا في كل مرحلة من حياتنا اليومية. فمن الامثلة البسيطة جداً، امساك الاهل بيد اطفالهم على الطريق حيث يسيرون معهم، واضعين اياهم في مواجهة السيارات بدل ان يحرصوا على وضعهم على الرصيف او في ابعد نقطة ممكنة عن السيارات، او يجرون عربة طفل رضيع ويعتقدون انها "سيارة مصفحة" يضعونها وجهاً لوجه مع السيارة القادمة وسط الطريق!
الامر لا يقف عند هذا المثل البسيط، ولكنه يتعداه بأشواط حين ترى اطفالاً على مفترق الطريق يتغلغلون بين السيارات، يتسولون ويستعطون وهم يرتدون ملابس رثة، وفي حالة تحطم القلوب. ان اول ما يلفت النظر، هو العمر الصغير لهؤلاء الاطفال، فمنهم من لم يتخط عامه الاول، ويتصدى لكل عوامل المناخ والطقس متسلحاً بقطعة من القماش تغطيه اياً تكن حالته الصحية. ولمن لم يرقّ قلبه من هذا المشهد، فعلاجه سهل، اذ يعمد "السجّانون الارهابيون" الى توكيل طفل تعلم المشي حديثاً، بحمل الرضيع والمشي به بين السيارات.
هؤلاء الارهابيون المجرمون المنحطون، من يتجاسرون ان يدعوا انفسهم بشراً ويضعون انفسهم زوراً في مصاف الاهل، وهم فعلياً ليسوا سوى اشباه انسان متعجبون من كيفية انهم ينطقون ويسيرون على قدمين، يرون في هؤلاء الاطفال ورقة نقدية فقط لا غير. ففي حين يعتبر الاهالي الطبيعيون ان اطفالهم هم كنز من المحبة والنِعم والبراءة فيغدقون عليهم ما اعطاهم الله من عاطفة وبذل ذات من اجل اسعادهم وتأمين حياة كريمة لهم، يرى "اشباه الانسان" ان الاطفال هم كنز من نوع آخر، لانهم رهائن يحبسون ضمائر الناس الذين يحتارون بين مساعدة الاطفال وتقديم الاموال لهم (علماً ان اي قرش منها لن يذهب في سبيل رعايتهم بل سيغذي جيوب الخبثاء المجرمين الذين يرمونهم في الشارع)، وبين ان يتركوهم بين السيارات طوال النهار وفي احيان كثيرة في الليل ايضاً.
لسان حال هؤلاء الاطفال هو واحد: نحن رهائن، فهل من ينقذنا ويدعنا نعيش بأمان، ويؤمّن لنا ابسط مقومات العيش؟ في الواقع، لن يجد هؤلاء آذاناً صاغية من قبل الحكومة بطبيعة الحال فالمشاكل التي يعاني منها المواطن لا تعد ولا تحصى وهو لا يعتمد اصلاً على الحكومة في اصلاح الامور والقيام بواجبها. اما مجلس النواب، فلن ينصف الاطفال سوى باقرار القوانين دون ان يحاسب الحكومة على عدم تنفيذها لهذه القوانين، فقانون حماية الطفولة ومنع عمالة الاطفال على سبيل المثال لا الحصر، هو "انجاز" ورقي لمجلس النواب يتبجّح به النواب امام نظراءهم خارج لبنان، ويذرفون دموعاً اصطناعية على واقع الاطفال.
وحدها بعض المؤسسات المدنية تحاول مشكورة، اضاءة شمعة في ظلام هذا الوضع الحالك للاطفال، وتعمل ما في وسعها من اجل انقاذهم من سجنهم الذي وجدوا انفسهم رهائن فيه منذ ولادتهم، فتنجح حيناً في انقاذ البعض وتخفق احياناً بسبب ضعف الامكانات.
ليس سهلاً على اي كان ان يرى طفلاً يلاحقه على الطريق ويستجدي منه المال، وهو يكاد لا يصل الى حدود نافذة السيارة نظراً الى عمره الصغير وقامته التي لم تعرف النمو بعد، لان المواطن وعلى عكس اشباه الانسان الذين رموا اطفالهم، يرى في هؤلاء كائناً حياً ورمزاً للبراءة التي بات يفتقدها العالم اليوم. يغرق كل منا يومياً بعذاب ضمير اليم جرّاء ما يراه من مشاهد لهؤلاء الاطفال، ويبحث يومياً ايضاً عن مؤسسات انسانية وخيرية (ويتأكد من كونها قانونية وتهتم فعلاً بالاطفال ولا تتخذ منهم واجهة مزيفة لتحقيق الارباح غير المشروعة) من اجل ان يساعد على قدر ما امكنه، علّ الصورة التي ترسخت في رأسه تبدأ بالاضمحلال لتحل محلها صورة طفل يتلقى المساعدة وينعم بدفء المحبة والحنان.
اما بالنسبة الى "اشباه الانسان"، فنتركهم للعدالة السماوية حيث سيلقون جزاءهم وحيث "البكاء وصريف الاسنان"...