مجدّداً، فعلها "حزب الله" على قاعدة "العين بالعين والسنّ بالسنّ والبادي أعظم".
في عزّ انهماكه بـ"الجبهات المفتوحة"، سواء العسكرية منها أو السياسية، أبى الحزب أن يترك اغتيال "رمز" بحجم عميد الأسرى المحرّرين سمير القنطار يمرّ مرور الكرام، من دون ردّ يليق بالقنطار وما يمثّله.
ومن مزارع شبعا اللبنانية المحتلة، أتى الردّ ليضرب سلسلة عصافير بحجرٍ واحد، وليذكّر بأنّ المواجهة مع إسرائيل كانت ولا تزال وستبقى مفتوحة، وليكرّس توازن الرعب، الذي غيّر كلّ المعادلات منذ حرب تموز، وصولاً إلى ما بعدها وما بعد بعدها.
البوصلة في مكانها...
بعد أقلّ من أربع وعشرين ساعة على خطاب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله، الذي اعتبر الكثير من "خصومه" أنّه "أضاع" فيه "البوصلة"، نظرًا لأنّه ركّز هجومه على المملكة العربية السعودية، مطلقاً عليها أوصافاً لطالما كانت "حكرًا" على إسرائيل، رغم أنّه جدّد فيه أيضًا التأكيد على أنّ الردّ على اغتيال القائد سمير القنطار آتٍ لا محال، أتى الردّ فعلاً، أو بالأحرى "أول غيثه" هو الذي أتى.
من هنا، فإنّ العملية تشكّل ردًا موثقاً وعمليًا على هذه "النظريّات"، باعتبار أنّها إن دلّت على شيء، فعلى أنّ انشغال "حزب الله" بالتطورات في سوريا، والمواجهة السياسية المفتوحة مع السعودية، والمواجهة العسكرية المستمرة مع التكفيريين على الحدود، لا يلغي اهتمام الحزب بالجبهة المفتوحة بشكلٍ دائمٍ مع عدوّه الأول والمُعلَن وهو إسرائيل، ومن ثمّ مع كلّ من يتماهى ويتناغم معه، أياً كانت هويّته ووظيفته.
الحزب عند عهوده!
ولعلّ الرسالة الأهمّ الكامنة وراء عملية شبعا النوعية تكمن بقدرة الحزب على ترجمة أقواله إلى أفعال في زمن التراجع والاستسلام، بحيث أنّ العملية أظهرت مرّة أخرى بالدليل الملموس أنّ الحزب عندما يقول أنّ الردّ آتٍ فهذا يعني أنّه آتٍ، وذلك لأنّ "حزب الله" عند عهوده ووعوده، وهو ينفذ ما يقول أنّه سينفّذه، والتجارب السابقة خير دليلٍ على ذلك، من حرب تموز التي خاضها لتحرير القنطار نفسه وهو ما حصل، وصولاً إلى العملية التي نفذها قبل عامٍ رداً على اغتيال عددٍ من كوادره الذين اغتالتهم إسرائيل غيلةً في القنيطرة السورية.
ويقول المتابعون أنّ "حزب الله" أراد انطلاقاً من ذلك توجيه رسالة مزدوجة، مفادها أنّ عين الحزب لا تزال ساهرة ومتيقّظة ومتأهّبة، وأنّه عندما يقول أنّه سيردّ "في الزمان والمكان المناسبَين"، فهذا لا يعني أنّه وقع في "فخّ الممانعة"، كما أوحى البعض، بل يعني أنّه بالفعل يتحيّن "الزمان والمكان المناسبَين"، وأول شروطهما خروج "الأهداف الإسرائيلية" من المخابئ، وهو بالتحديد ما حصل بعد ظهر الإثنين.
ردّ متقن؟
ولكن هل كان الردّ بالفعل موفقاً وبحجم اغتيال قائد بحجم سمير القنطار؟ ولماذا اعتبر البعض أنّ الردّ لم يكن بالمستوى المطلوب، بل إنّه أتى دون التوقعات؟
هنا، لا بدّ من التمييز بين بُعدَين اثنين، أولهما استراتيجي بدرجةٍ كبيرة، باعتبار أنّ "حزب الله" ما كان ليقوم بعملية استهداف الجيش الإسرائيلي من دون معرفة أبعاد ما سيلي العملية من تطورات، ودون التأكد من قدرته على التعامل مع هذه الأبعاد بالشكل الملائم.
ومن هنا، فإنّه من الممكن القول أنّ الردّ أتى مدروسًا ومتقناً، ومع ذلك، فإنّ الحزب كان جاهزًا لكلّ السيناريوهات والاحتمالات التي يمكن أن تنجم عنها، بما فيها احتمال الحرب، التي وإن لم يكن يريدها، إلا أنّه كان مستعداً لها فيما لو فُرِضت عليه، كما يؤكد مسؤولو الحزب بشكلٍ دوريّ.
تكتّمٌ وفشلٌ...
أما البُعد الثاني الذي يجدر التوقف عنده، فيتعلق بالمكاسب التي حققها "حزب الله" عمليًا من العملية في سياق "الحرب النفسية" مع الإسرائيليين، وما تقليل الجانب الإسرائيلي من حجمها وتكتّمه على خسائرها والمعلومات عنها، سوى الدليل الأكبر على ذلك.
ويشير المراقبون في هذا الإطار إلى أنّ هذا الأمر يعود أساسًا إلى حصول العملية نفسها من الأصل، وإلى فشل الإجراءات الأمنية قبل وبعد حصولها، وفشل تهويل الجيش الإسرائيلي في منع حصولها، رغم أنّه كان يعرف أنّ الردّ آتٍ، وكان يتحسّب جيّداً له، لدرجة أنّ أيّ دورية لم تكن تعبر إلا عند الضرورة القصوى وبعد ضمان أمنها.
وتبقى الخلاصة الأساسية من كلّ ما سبق أنّ عملية "حزب الله"، التي وقعت في أرضٍ لبنانية محتلة، أتت لتذكّر اللبنانيين قبل غيرهم أنّ هناك أرضًا محسوبة على وطنهم لا تزال محتلّة، ولتذكّر الإسرائيلي أنّ لا حق وراءه مُطالِب يمكن أن يضيع، وأنّها ليست سوى "البداية" في مسار "الردّ" على اغتيال القنطار.
بداية لا نهاية...
هي بداية إذاً لا نهاية، باعتبار أنّ الحساب الذي تسرّع الإسرائيليون بإقفاله من جانبٍ واحدٍ يوم اغتالوا سمير القنطار، "فُتِح" من جديد بقرار "حزب الله"، والأرجح أنّه سيبقى كذلك.
هي بداية لا نهاية، لأنّ البوصلة كانت ولا تزال واحدة، والمواجهة المفتوحة مع إسرائيل ستبقى الأساس، مهما تعدّدت وتنوّعت الجبهات، مع من لا يتردّد الحزب في اعتبارهم "وكلاءها" و"أدواتها" في المشاريع التفتيتية الفتنوية، سواء في السياسة أو في الميدان...