لدرجاتٍ غير مسبوقة، ارتفعت حدة "الكباش" الإقليمي، وخصوصًا السعودي–الإيراني خلال الساعات القليلة الماضية، وصولاً لحدّ الإعلان عن "القطيعة الدبلوماسية الكاملة"، في مؤشرٍ لا ينبئ سوى بالذهاب نحو المجهول.
وفي حين كانت دول الخليج تلتحق بالركب السعوديّ، على جري عادتها، فتتناوب على إعلان "القطيعة" فرادى وجماعاتٍ، كان الغرب، وخصوصًا في شقّه الأوروبي، ينظر بعين القلق للتطورات "الدراماتيكية"، فلا يكتفي بالدعوة إلى "التهدئة"، بل يذهب لحدّ "التطوّع" لفتح باب "الوساطات" والقيام بدورٍ ما على هذا الصعيد.
ولّى زمن التسويات...
كثيرة هي التحليلات والتفسيرات التي أعطيت لإقدام السلطات السعودية على إعدام الشيخ نمر باقر النمر صبيحة ثاني أيام العام الجديد، مجمّدة بذلك كلّ ما كان يُحكى عن "تسوياتٍ على النار"، خصوصًا أنّ أحداً لا يمكنه أن يتوهّم أنّ خطوةً من هذا النوع يمكن أن تمرّ دون تداعياتٍ لا يمكن إلا أن تكون سلبيّة بطبيعة الحال.
قيل أنّ السعودية أرادت توجيه "رسالة" بإعدامها الشيخ النمر بتهمٍ تتفاوت بين "التحريض على إثارة الفتن" و"الخروج على وليّ الأمر" لتقول أنّها لا تزال صاحبة "الكلمة الفصل"، خصوصًا بعدما روّج كثيرون في الآونة الأخيرة إلى أنّها مُنيت بهزائم وخيمة، وما سكوتها على اغتيال "رَجُلِها" في سوريا قائد ما يسمّى بـ"جيش الإسلام" زهران علوش أو توسّلها "الهدنة" في اليمن سوى خير دليلٍ على ذلك، علمًا أنّ تزامن الحادثة مع إعلانها انتهاء الهدنة في اليمن لم تكن "مصادفة بريئة" بأيّ شكلٍ من الأشكال.
ولأنّ "الرسالة وصلت" إلى إيران "دمويّة"، فإنّ الأخيرة لم تتأخّر في الردّ على طريقتها، فوضعتها وإسرائيل في خانة واحدة، وذهبت لحدّ التلميح إلى أنّ "نظام آل سعود يحفر قبره بيده"، وغيرها من التصريحات "العدوانية" بتوصيف المملكة، التي لم تتحمّلها، فألحقتها سريعًا بإجراءٍ عملي تمثّل بالإعلان عن قطع العلاقات الدبلوماسية، دون حفظ أيّ خطّ للرجعة من أيّ شكلٍ، إجراء لن يكون من شأنه بطبيعة الحال سوى زيادة حالة "الاحتقان" القائم.
المستفيد الأكبر...
ولّى زمن التسويات إذاً، وعاد الخطاب المذهبيّ ليتفوّق على ما عداه في منطقةٍ "ملتهبة" أصلاً، وإن خرج بعض "العقلاء" ليحصروا الموضوع في إطارٍ ضيّق، بعيدًا عن تعميمه على المذهبين السنّي والشيعي بشكلٍ كامل.
ولكنّ تصاعد الخطاب بهذه الوتيرة غير المسبوقة، وبعيدًا عن الحيثيات والخلفيات والمسبّبات كما النتائج والتداعيات، لا يصبّ إلا في صالح الجماعات المتطرفة الإرهابية والتكفيرية التي تعيش أصلاً على هذا النوع من الخطابات، والتي بنت عليه لتصل إلى كلّ ما وصلت إليه خلال السنوات القليلة الماضية.
أكثر من ذلك، فإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ التشنّج القائم لا محلّ له من الإعراب سوى المساهمة بالفوضى غير البنّاءة بطبيعة الحال، والتي تخدم الجماعات التكفيرية نفسها، والتي كانت تستغلّ كلّ مسافة فوضى في المنطقة، مهما صغر حجمها، لتنطلق منها إلى الفضاء الواسع، وما خروجها إلى العلن بعد تكريس "الفوضى" بموجب مشروع "الشرق الأوسط الجديد" الذي وجد في الخراب والدمار في سوريا والعراق "ملاذاً آمناً" و"معبراً مريحًا"، إلا دليل على ذلك.
أوروبا "المرعوبة"...
انطلاقاً من كلّ ما سبق، يمكن ربط "التهافت" الأوروبي على إعلان الاستعداد لـ"التوسّط" بين الرياض وطهران بحالة "الخوف" و"الرعب" التي تعيشها المجتمعات الأوروبية، بعدما دقّ الإرهاب "الداعشيّ" أبوابها العريضة خلال الأشهر القليلة الماضية.
وإذا كان "شبح" هجمات فرنسا الشهيرة لا يزال يلاحق باريس وغيرها من العواصم الأوروبية، والتي ألغت الكثير من احتفالاتها "التقليدية" ليلة رأس السنة خوفاً من هجمات إرهابية وصفتها التقارير الأمنية بـ"المحتملة"، فإنّ هذه الدول كانت تراهن على "تقارب" بين مختلف الدول الفاعلة في المنطقة، وفي مقدّمها السعودية وإيران، للوصول إلى خطةٍ جدية وفاعلة لمكافحة الإرهاب الذي لا يستثني أحدًا، وهي ترى أنّ "التباعد" لن يأتي إلا بنتائج عكسيّة، ومن شأنه أن يعطي "التكفيريين" فرصة لا تُعوَّض للتسلّل أكثر فأكثر سواء في دول الشرق الأوسط أو أوروبا نفسها، وبالتالي تحقيق الأهداف التي يصبو إليها من دون حسيبٍ أو رقيب. ولعلّ أزمة المهاجرين الخطيرة التي لا تزال أوروبا تتخبّط بها تزيد من "الرعب" في القارة العجوز، في ظلّ بروز خلافاتٍ حتى فيما بين الدول الأوروبية نفسها على "تقاسم" اللاجئين الذين تحوّلوا إلى ما يشبه "الفزّاعة"، وهنا تخشى هذه الدول أن يؤدّي التوتر القائم حالياً إلى مضاعفة الخطر أكثر وأكثر.
وبعيدًا عن "الرعب"، فإنّ الكثير من المراقبين يربطون ما حصل أيضًا ببدء العدّ العكسي لـ"ترجمة" الاتفاق النووي الذي تمّ التوصّل إليه العام الماضي بين الجمهورية الإسلامية في إيران والدول الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية، والذي كانت المملكة العربية السعودية، للمفارقة، من أكثر المتضرّرين منه، وهو ما لم تُخفِه في أيّ يومٍ من الأيام. وفي هذا السياق، يرى الكثير من المراقبين أنّ أوروبا التي كانت تستفيد من التوتر السعودي الأميركي من أجل الكسب إقتصادياً، لديها رغبة أيضاً بالدخول إلى السوق الإيراني الواعد، علمًا أنّ رفع العقوبات عن إيران يبدأ تدريجيًا هذا الشهر، لتصبح الجمهوريّة الاسلاميّة قوة عظمى مفتوحة على كلّ أنواع الاستثمارات، وهو ما بدأ يلمسه الكثيرون في الآونة الأخيرة.
الخوف من المجهول...
هل ينجح الأوروبيون في "التقريب" بين السعودية وإيران، وبالتالي إنقاذ المنطقة الشرق أوسطية كما مجتمعاتهم من التداعيات الكارثية التي يمكن أن تحصل فيما لو تصاعد الخلاف أكثر وأكثر؟ وماذا لو أخفقوا في ذلك؟ كيف سيكون وجه المنطقة عندها؟ وهل سيكون من رابحٍ أصلاً؟ وهل ولّى زمن التسويات بالفعل وأتى زمن الحروب العسكرية والميدانية، ليس بالواسطة كما كان الحال في السابق من سوريا إلى اليمن مروراً بلبنان، ولكن بشكلٍ مباشرٍ هذه المرّة؟
كلّها أسئلة تبقى بلا جوابٍ شافٍ في الوقت الحاضر، بانتظار نضوج المعطيات، الكفيلة وحدها برسم اتجاه الأمور في المدى المنظور، إما نحو "التسويات الضرورية" أو نحو "الصدامات الحتميّة"، وبعدها لا مكان للندم...