في ضوء التحولات القائمة في الشرق الأوسط، جاء تأكيد وزارة الخارجية الأميركية بأن الجيش السوري هو واحدة من مؤسسات الدولة التي ينبغي الحفاظ عليها بمهامها الأمنيّة، بالرغم من أن كل الخطوات التي قامت بها واشنطن، في السنوات السابقة من عمر الأزمة، توحي بأن توجهاتها هي عكس ذلك كلياً، لا سيما أن مشروعها بالمنطقة يتطلب إضعاف مؤسسات الدول المركزية، في مقابل دعم أخرى رديفة تكون ذات توجهات مذهبية أو عرقية.
في السياق نفسه، كان لدى الإدارة الأميركية تجربة سابقة في العراق، لم تقد إلى إحكام السيطرة على البلاد، بعد تفكيك مؤسسات النظام السابق برئاسة الرئيس الراحل صدام حسين، بل على العكس أدّت إلى إشعال الحروب الداخلية على نحو غير مسبوق، بالإضافة إلى نمو الجماعات المتطرفة، التي إستفادت من إرتفاع مستوى التوتر المذهبي، بالتزامن مع تغلغل النفوذ الإيراني المعارض لواشنطن إلى العراق بشكل قوي في الوقت عينه، واليوم تجد الولايات المتحدة نفسها مضطرة للعودة إلى المنطقة، بعد أن كان الرئيس باراك أوباما قد حدد أكثر من موعد لسحب قواته منها، لا بل وصوله إلى السلطة كان تحت هذا العنوان.
في هذا الإطار، تشير مصادر متابعة، عبر "النشرة"، إلى أن السياسة الأميركية القائمة على التعامل مع الوقائع كما هي تحتم التعديل في التعامل مع الأحداث، الأمر الذي عبّر عنه في السابق وزير الخارجية الأميركية جون كيري بالحديث عن أمر واقع لا يمكن تجاوزه، في الإشارة إلى الظروف السياسية التي حتّمها التدخل الروسي في الحرب السورية، وتضيف: "الواقع نفسه ينطبق على النظرة إلى مؤسسات الدولة، بالتحديد الأمنية والعسكرية منها، حيث بات الجميع يدرك أن موسكو لن تسمح باسقاطها مهما كان الثمن، وبالتالي ما عبرت عنه الخارجية الأميركية يمكن القول أنه تحصيل حاصل لا أكثر".
وتلفت هذه المصادر إلى أن الولايات المتحدة عملت في السابق على محاولة فكفكة المؤسسات الأمنية والعسكرية السورية، بعد أن ساهمت بإضعافها من خلال الحرب الداخلية التي كان لها دور أساسي في إشعالها، عبر دعم مجموعات مسلحة رديفة كان يراد لها أن تحل مكان تلك المؤسسات، لكنها ما لبثت أن أعلنت على لسان كبار المسؤولين العسكريين فيها فشل برامجها العسكرية، التي كانت تتخذ من الأراضي التركية والأردنية قواعد لها، ما شكل فضيحة كبيرة لها كانت محل نقاش في دوائر الكونغرس، خلال جلسة إستجواب لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ وزير الدفاع أشتون كارتر.
بعد ذلك، تم الإعلان عن تحول جديد في السياسة الأميركية، في الشهر العاشر من العام المنصرم، عندما أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع بيتر كوك أن بلاده قررت تعديل استراتيجية دعم مقاتلي المعارضة السورية الذين يواجهون تنظيم "داعش" بعد فشل برنامج التدريب، لافتاً إلى أنها ستوفر الغطاء الجوي لمقاتلي المعارضة حتى يكون بمقدورهم دخول الأراضي التي يسيطر عليها "داعش"، الأمر الذي يترجم، من وجهة نظر المصادر نفسها، من خلال الدعم الذي تحظى به "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تسيطر عليها قوات "حماية الشعب الكردي"، عبر تأمين الدعم الجوي لها في حين هي تتولى قيادة العمليات البرية على الأرض، لكنها تسأل: "ماذا تستطيع أن تقدم هذا القوات عملياً؟"
بالنسبة إلى المصادر المتابعة، "قوات سوريا الديمقراطية" لا يمكن لها أن تحل مكان الجيش السوري، وتشدد على أن الأميركيين يدركون هذه الحقيقة، وتلفت إلى أن أقصى ما يمكن أن تقوم به هو أن تكون شبيهة بقوات "البشمركة" المتواجدة في إقليم كردستان العراق، لكنها توضح أن مشكلة واشنطن الأساس تكمن في عدم قدرتها في الحالة السورية على إيجاد قوات سنيّة يمكن الرهان عليها لتكون شرطة أقاليم أو ولايات، كما هو الحال في العراق عبر القوات التي تم تأمينها من العشائر العربية، حيث أغلب القوات التي تسيطر على الأراضي الواقعة خارجة سيطرة الدولة السورية لا يمكن أن تكون جزءاً من أي مشروع سياسي في المستقبل.
وتشير المصادر نفسها إلى أن هذا هو السلاح الأقوى، الذي إستخدم من قبل موسكو، التي تُصر على ضرورة الإتفاق على لائحة موحدة للمنظمات الإرهابية، بالتزامن مع تقديمها مختلف أنواع الدعم للجيش السوري، الذي نجح إلى حد بعيد في إستعادة زمام المبادرة، لكنها تسأل: "هل يعني موقف وزارة الخارجية الأميركية الأخير الإستسلام؟"، لتؤكد أن المعركة لم تنته عملياً، ما يعني أن واشنطن قد تعود إلى مراجعة إستراتيجيتها في سوريا من جديد. إلا أنها تجزم بأن هذا لا يندرج في إطار التعلم من دروس التجربة العراقية، باعتبار أنّ المطلوب كان تعميمها على مستوى المنطقة.
في المحصلة، لا يمكن أن يمر إعلان وزارة الخارجية الأميركية مرور الكرام، لكنه لا يعني أن واشنطن ستعمل على الحفاظ على المؤسسة العسكرية السورية، فهي تملك القدرة على تبديل مواقفها متى تدعو مصالحها إلى ذلك.