تقول الأسطورة اليونانية إنّ الآلهة غضبت يوماً على "سيزيف" فحكمت عليه بحمل صخرة عملاقة على ظهره والصعود بها إلى قمة الجبل، وقبل أن يصل بقليل تتدحرج الصخرة الى أسفل، ليعود فيحملها مجدّداً، وهكذا إلى الأبد، وهذا العقاب الأبدي ذهب مثلا للمهمات المستحيلة.
عندما رفع "حزب الله" راية الأمة العربية عن الأرض بعد الإجتياح الإسرائيلي للبنان سنة 1982، كان يعمل تحت مظلة استراتيجية أكبر، وهي لمّ شمل الأمّة الإسلامية، وهاتان المهمّتان يمكن وصفهما اليوم بجدارة بالمهمة السيزيفية.
التحولات السياسية
التطلعات الطموحة لإعادة لم شمل الدول العربية واعادة تكوين وعيها من جديد إضافة الى ما فيها من السطحية، هي تتجاهل تغييرات دراماتيكية حصلت على الساحة العربية والتي لطالما كانت منقسمة بين جبهتين أساسيتين:
1- جبهة الممالك والإمارات، وهي مدعومة أميركياً وأوروبياً.(المملكة السعودية، امارات الخليج، المملكة المغربية، المملكة الأردنية).
2- جبهة الجمهوريات الإشتراكية المدعومة من الإتحاد السوفياتي. (مصر، سوريا، العراق، ليبيا، الجزائر، اليمن).
وكان للصراع الدائر بين الجبهتين أوجه أخرى، فكان يبدو ظاهريًا كصراع بين الرجعية والتقدمية، بين الأنظمة الدكتاتورية العائلية والأنظمة الجماهيرية. وبوجه آخر بين الرأسمالية والإشتراكية.
وبعدما كانت أنظمة "جبهة الصمود والتصدّي" تدعم المنظمات الفلسطينية بالمال والسلاح، إضافة الى دعم الحركات والأحزاب الوطنية السائرة في نهج التحرر من الرجعية والتبعية، لعب القدر لعبته.
أما الأنظمة التقدمية، فقد تكفلت الروح العربية العشائرية في تفريغ دولها من مضمونها التقدمي وتحويلها إلى سلطة ملكية غير معلنة، وفقدت المنظمات الفلسطينية والأحزاب اللبنانية تمويلها المادي بعد انهيار العراق وليبيا وهما بلدان لديهما فائض مالي يمكنهما من تقديم مساندة فعالة. فانتقلت منظمة التحرير الفلسطينية التي تنوء تحت عبء إعالة شعب مشتت ولاجئ الى جبهة الممالك، وسلّمت قرارها لها.
أما الاحزاب الوطنية اللبنانية فوقعت في عجز مادي حقيقي، فبدأت تذوب وتضمحلّ الى ان اصبحت على ما هي عليه اليوم، عاجزة عن ايصال نائب الى البرلمان دون الصعود في احدى البوسطات الطائفية. وخلت الساحة السنيّة اللبنانية خاصة، من اي حزب جدي، لتقع تلك الساحة دون مقاومة في سلة "مشروع" "تيار المستقبل" المدعوم بالمال الخليجي الهائل.
وهذا الواقع المستجد هو ما يجب على "حزب الله" إدراكه اليوم، قبل أن يستمر في مشروع استنهاض الساحات العربية.
السنة في لبنان بمعظمهم اتخذوا قرارهم منذ سنوات وانتهى الأمر، وانحازوا الى الجناح السعودي المصنف ناصريًّا بالرجعي. هذا الجناح لطالما وصف بالمتآمر على القضية الفلسطينية وعلى أحلام الوحدة العربية. وانمحت صورة بيروت الحاضنة والهادرة بشعارات الناصرية والوحدة العربية، لصالح العدو اللدود لعبد الناصر وشعاراته: المملكة السعودية.
هذا الإصطفاف السنّي لم يكن موقفاً عابراً. بل ترسخ يوما بعد يوم، وبرز في الإنتخابات النيابية المتلاحقة حيث لم تشهد سقوط المرشحين الناصريين فقط بل رموز العمل السياسي العروبي والوطني كرئيس الحكومة السابق سليم الحص الذي سقط وهو في منصب رئيس الوزراء امام مرشحة مجهولة اسمها غنوة جلول، وهي سابقة في التاريخ السياسي اللبناني، ورئيس الحكومة السابق الراحل عمر كرامي في طرابلس، واسامة سعد في صيدا، وعبد الرحيم مراد في البقاع الغربي.
هؤلاء ليسوا زعماء لبنانيين فحسب، بل أعلام بارزة في التيار العروبي داخل وخارج لبنان. والحق يقال ايضاً أن الشعبية المتبقية للشخصيات المذكورة عائدة بأغلبها إلى إرث عائلي أكثر منه التزام تنظيمي وعقائدي.
ما عادت شعارات الوحدة العربية والاسلامية "تطعم خبزاً"، ومن كان لا يزال في شك من ذلك، ستوقظه نتائج ثورات "الربيع العربي" حيث اختفت الشعارات الوحدوية لتفسح المجال للهموم المعيشية والتحديات الاجتماعية القطرية لكل بلد على حدة، وعادت الدعوات الإنفصالية المكبوتة لتطل برأسها في العراق وسوريا وليبيا، معاقل شعارات الوحدة العربية.
خطة "حزب الله"
ما هي إذاً خطة "حزب الله" في استعادة الشارع السني الى محور المقاومة؟
قبل الاجابة على هذا السؤال، لا بد من التذكير أن الحزب سبق وأوضح مراراً هدفه المتمثل في إستنهاض الشارع العربي للوقوف بوجه اسرائيل وحلفائها، معترفاً بالوقائع الواضحة لإختلال الميزان الإستراتيجي السياسي والعسكري لصالحها، وأنه لم يطرح نفسه يوماً كبديل أو كمسؤول وحيد عن القضية الفلسطينية، ولم يكفّ عن دعوة الدول العربية والمنظمات والأحزاب الى القيام بواجباتها.
وبما أن "حزب الله" تصدى على مدى السنوات الثلاثين الماضية (في معظمها كان لوحده) لمهمة مقاتلة ما يسميه بـ"المشروع الصهيوني" و"المشروع الأميركي"، فليس هناك جهة أو حزب أولى منه بإجراء تقييم للفترة الماضية و"مقاصة" الأرباح والخسائر.
في 28-07-2015 عقد في الأونيسكو مؤتمر إتحاد علماء المقاومة تحت شعار "متحدون من أجل فلسطين، اسرائيل إلى زوال". وفي كلمته طالب الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله بضرورة إجراء مراجعات دورية، تقييمية للخسائر والمكاسب في الصراع مع اسرائيل. واستعرض الخسائر كالتالي:
- خروج فلسطين والصراع مع اسرائيل من دائرة الإهتمام الدولي والعربي والإسلامي.
- خروج فلسطين من دائرة اهتمامات الشعوب العربية والاسلامية.
- ما حصل ويحصل في سوريا بما تمثل من موقع رئيسي ومركزي في مشروع المقاومة.
- تسعير العداء لإيران رغم ما تمثله كداعم أكبر في مواجهة "المشروع الصهيوني".
- سقوط الجدران النفسية تجاه الإسرائيلي، الى درجة القبول بتلقي السلاح والدعم منه وإرسال الجرحى إلى مستشفياته للعلاج.
-الجرائم والممارسات التكفيرية تجاه المذاهب الأخرى والأقليات جعلتها تنكفئ للدفاع عن وجودها، وتخرج اسرائيل من دائرة اهتماماتها.
أما كيفية مواجهة هذه الهجمة الشرسة فيرى فيها نصرالله أن "شعوب منطقتنا، بفعل الامان والوعي والاخلاص والصبر والتحمل ـستتمكن من تجاوز هذه المحنة". ولا ندري من أين سنستحضر شعوبًا تتطابق مع المواصفات المثالية المذكورة.
لم تعد الشعارات الشعبوية الموروثة من حقبة الصراع العربي الإسرائيلي تستهوي أحداً، وكل محاولات التعايش بين المذاهب الإسلامية سقطت بالضربة القاضية، لتعطينا الخلاصة الذهبية: لا مجال للتعايش تحت سقف المذاهب، بل فقط تحت سقف المواطنة.
والدليل ما يحصل في بلداننا العربية والإسلامية حيث الهوية الأولى للإنسان دينه ومذهبه قبل وطنه، بينما في الدول غير العربية والإسلامية الهوية الأولى للإنسان وطنه.
يتضح من العرض السابق أن الأوضاع على مستوى الصراع العربي الاسرائيلي لم تعد الى الصفر، بل نزلت الى ما تحته، الى دركٍ غير مسبوق، فبعد محاولات "سيزيفية" متكررة لرفع مستوى الوعي والمشاركة عند الشعوب العربية، من خلال تقديم نماذج الصمود والانتصارات التي حققتها المقاومة، انهار كل شيء واصبح المطلوب اليوم استعادة جماهيرها الى حيث كانت قبلاً، بعدما تسرب اليها القلق الوجودي، واصبحت تنظر الى الصراع مع اسرائيل كترف فكري هامشي.
ولأنّ كان الشيعة في لبنان يمتلكون حصانة ما من الوقوع في تلك "الخيانة الفكرية" كما اسماها السيد نصرالله، بفعل ثلاثين سنة من الصراع الدموي مع اسرائيل، فإن بقية الطوائف الإسلامية كالدروز والعلويين، والمسيحيين والأكراد، لا يجدون حرجاً في النظر اليوم الى اسرائيل كمدافع عن وجودهم امام من يريد استرقاقهم.