على الرغم من أن الرئيس الأميركي ​باراك أوباما​ تعمد، في خطاب الوداع مع إقتراب نهاية ولايته، عدم التركيز على ملفات ​الشرق الأوسط​ الشائكة، إلا أنه قدم الرؤية، التي قد تكون الأصدق منذ وصوله إلى السلطة نظراً لتحرره من الأعباء التي يسببها موقعه، لما يحصل فعلياً في المنطقة، في ظل نمو الجماعات الإرهابية المتطرفة، التي ترتكب كل يوم المزيد من الجرائم والمجازر باسم الدين الإسلامي.

بالنسبة إلى أوباما، عناصر تنظيم "داعش" الإرهابي لا يشكلون خطراً وجودياً على بلاده، لكن هم مجموعة من "القتلة يجب القضاء عليهم ومطاردتهم وتدميرهم"، مؤكداً أنهم سيتلقون نفس الدروس التي تلقاها إرهابيون آخرون، ملمحاً إلى زعيم تنظيم "القاعدة" الراحل ​أسامة بن لادن​، إلا أن المهم في مواقفه هو في مكان آخر، يتعلق بدول المنطقة، التي لم يتردد في القول أن واشنطن لا يمكنها أن تحاول أخذ زمام الأمور وإعادة بناء كل دولة تقع في أزمة.

من وجهة نظر رئيس الدولة الأقوى على مستوى العالم، فإن بلدان الشرق الأوسط هي اليوم أشبه بـ"مستنقع للدماء" بسبب الصراعات القائمة في السنوات الأخيرة، لكن رغم قيادة بلاده أكبر تحالف دولي لمكافحة الإرهاب، هو يرى أن التحولات القائمة ستستمر إلى أجيال، ما يعني عملياً أن الحروب لن تنتهي قبل سنوات طويلة، ربما تقضي على ما تبقى من حياة في هذه المنطقة.

في هذا السياق، تؤكد مصادر متابعة، عبر "النشرة"، أنه لا يمكن إنكار الواقعية التي تميز بها خطاب أوباما في توصيف الأمور، فهو يتحدث فعلياً عن حقيقة الأوضاع في الشرق الأوسط، الذي لا تستطيع أي جهة إقليمية أو دولية حسم الصورة التي سيكون عليها في السنوات المقبلة، خصوصاً أن الأزمات القائمة ليس هناك من أفق لحلها في وقت قريب، بل هي مرشحة إلى المزيد من التصعيد بعد تفاقم الخلافات الإيرانية السعودية، التي لا تصب في خانة الحلول السلمية المنتظرة، وترى أن الرئيس الأميركي يُبشر بطريقة غير مباشرة بحروب بالوكالة طويلة، ستظهر على أنقاضها معالم النظامين الدولي والإقليمي الجديدين، لكن الأمر سيتطلب سقوط المزيد من الضحايا وتدمير مقدرات البلدان على نحو أكبر، وهذا لا يعني عملياً أن واشنطن ليس لديها أي خطة إستراتيجية لمواجهة هذا الواقع الخطير، فهي منذ سنوات طويلة تتحدث عن مخاض الشرق الأوسط الجديد، النابع من نظرية الفوضى الخلاقة، التي روجت لها وزير الخارجية الأميركية السابقة كوندوليزا رايس في ولاية الرئيس السابق جورج بوش الإبن.

وتشير هذه المصادر إلى طلب الرئيس الأميركي من الكونغرس الحصول على تفويض من أجل إستخدام القوة ضد تنظيم "داعش"، في مقابل تأكيده على إلتزام بلاده التحرك في كل إتجاه لحماية أمنها وأمن حلفائها، من دون أن يعني ذلك إرسال الآلاف من الجنود إلى الساحات الملتهبة في الشرق الأوسط، خصوصاً أنه ألمح إلى أن التحدي الأبرز بالنسبة إلى بلاده هو قيادة العالم من دون التحول إلى الشرطي، أي القيادة عن بعد عبر توكيل هذه المهمة إلى الحلفاء، أو عبر إيجاد توازن قوى في المناطق المستهدفة يسمح بالحفاظ على المصالح الأميركية، لكن ماذا عن تهديد الجماعات الإرهابية البلدان الصديقة؟

تعتبر المصادر نفسها أن أوباما محق، في حديثه عن عدم وجود خطر وجودي على بلاده، بسبب نمو الجماعات المتطرفة على مستوى العالم، فهي لن تكون في أي مرحلة قادرة على القيام بأكثر من عمليات أمنية بين الحين والآخر، التي من الممكن التقليل من خطرها عبر تشديد الإجراءات المتخذة، لكنها تشكل هذا الخطر على بعض الدول، التي تعتبر صديقة للولايات المتحدة، وتأتي على رأسها السعودية وتركيا، فأنقرة والرياض تعيشان أوضاعاً داخلية لا تُبشر بالخير، نتيجة الصراعات الداخلية والإقليمية، المترافقة مع إرتفاع منسوب التوتر المذهبي، والأمر نفسه ينطبق على مصر، فهل أراد الرئيس الأميركي القول مباشرة أن على هذه الدول معالجة مشاكلها وحدها، كما حصل عندما تخلت بلاده عن الرئيس المصري السابق محمد حسني مبارك، بعد أن وجدت أن لا مصلحة لها بالإستمرار في دعمه مطولاً؟

على الرغم من إختلاف المراقبين في توصيف عهد أوباما، بين من يعتبره الرئيس الأميركي الأضعف ومن يرى أنه حقق الأهداف الأميركية من دون أي تكاليف تذكر على المستويين المالي والبشري، تشير المصادر المتابعة إلى أن الجميع، منذ أشهر طويلة، كان يدرك بأن الأوضاع في المنطقة لن تتضح قبل الإنتخابات الرئاسية الأميركية، حيث ستكون الأمور مرهونة بتوجهات الرئيس الجديد، الذي سيكون عليه الإنطلاق من الأرضية التي "بناها" أو "هدمها" سلفه، الذي يفاخر اليوم في إنجاز الإتفاق النووي مع الجمهورية الإسلامية في إيران ومعالجة الأزمة التاريخية مع كوبا.

في المحصلة، لم يأت الرئيس الأميركي بجديد على مستوى الأوضاع في المنطقة، لكن خطاب الوداع سيكون العنصر الأهم في المعركة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي على كرسي الرئاسة في الدولة الأهم على مستوى العالم.