تعالت صيحات المواقف الدولية في الآونة الأخيرة منتقدةً كوريا الشمالية على إجرائها تجربة القنبلة الهيدروجينية، وقد تزامنت هذه التجربة مع اشتداد الصراع الأميركي الصيني في جغرافيات حساسة من العالم، ابتداءً من بحر الصين مروراً بالمحيط الهندي وصولاً إلى البحر الأحمر ومنه إلى المتوسط. هذا المسار البحري يشكّل النسق الأساسي لحركة الاقتصاد الصيني وحضورها القوي الذي يُقلق الولايات المتحدة الأميركية، حيث فشلت في سياسة احتواء الصين، وبدأت ترى فيها مزاحماً عنيداً ومنازعاً خطيراً على نفوذها وقوّتها في العالم. ومع تصاعد حدّة الصراع الأميركي الصيني -بسبب دخولهما في تغالب وتنازع على بحر الصين- تحوّلت شبه الجزيرة الكورية إلى نقطة لتبادل الرسائل بينهما.
لذلك جاءت تجربة بيونغ يانغ النووية في إطار تهديد صيني بالوكالة لأميركا، بهدف ردعها عن مزاحمة الصين في بحريها الجنوبي والشرقي وتخفيف منافستها في مناطق الجرف الأوراسي، وقد أدّت كوريا الشمالية هذه المهمّة بالإنابة عن الصين. لكنّ الولايات المتحدّة الأميركية قامت بإرسال طائرة ال بي52 إلى كوريا الجنوبية لطمأنتها وتثبيت التحالف معها، وكذلك للردّ على استفزاز بيونغ يانغ النووي ولجمها، فضلاً عن استعراض قوّتها وتأكيد وجودها في بحر الصين الشرقي المؤلّف من: اليابان، الصين، تايوان، كوريا الشمالية، وكوريا الجنوبية، وصولاً إلى سواحل المحيط الهندي الشمالية، حيث تعمل أميركا على تطويق الصين بواسطة الدول المحيطة بها في هذا الإقليم، فتبني معها التكتّلات والعلاقات وتغذي الخلافات والتوتّرات لتحجيم الصين بعد عجزها عن احتوائها. كذلك تتبع أميركا السياسة نفسها في بحر الصين الجنوبي الذي يضمّ: الفلبين، فييتنام، لاوس، كمبوديا، تايلاند، ماليزيا، سنغافورة، وأندونيسيا. فتسعى إلى تحريض هذه الدول لفرض سيادتها على بحر الصين الجنوبي وجزره، كما تقوم بطلعات جوية فيه واستطلاعات بحرية ردّاً على أنشطة الصين في تشييد بُنى عسكرية على سواحل وجزر بحرها الجنوبي، الذي تعتبره أميركا منطقة حيوية لها. فهذا الإقليم الآسيوي يحوي أكبر كثافة سكانية في العالم وأغنى مصادر الطاقة، إضافة إلى أهميته الجيوستراتيجية والجيوسياسية.
ويُعتبر هذا الإقليم امتداداً للمحيط الهندي الذي تقع على سواحله الشمالية: بورما، بنغلادش، الهند، وباكستان القريبة من بحر العرب، وبالتالي خليج عمان ومنطقة الخليج وصولاً إلى خليج عدن ثم باب المندب، ليصل إلى البحر الأحمر ومنه إلى البحر المتوسط. هذا الترابط الجغرافي يجعل الصراع الأميركي الصيني يمتدّ إلى منطقة الشرق الأوسط، ويفسّر خلافاتهما حول المسألة السورية والعراقية وموقفهما من الإرهاب التكفيري، الذي يرتبط بعلاقات وثيقة مع التنظيمات الإسلاموية المتطرّفة في جمهوريات القوقاز على الحدود الروسية، والتي إذا نجحت في إيجاد أرضيات مؤاتية لها سوف تمتدّ إلى الدول الإسلامية في بحر الصين الجنوبي لتصير مباشرة على حدودها. لذلك تأتي تصريحات كوريا الشمالية عقب تجربتها النووية الأخيرة اتجاه تركيا وحول سوريا كخطوة لتجاوز إكراهات الجغرافيا الطبيعية، ولربط المسار الجغرافي من بحر الصين إلى البحر المتوسط بنسق جيوستراتيجي واحد في وجه أميركا وحلفائها. كما تهدف إلى تثبيت دور كوريا الشمالية في الحلف المناهض لأميركا والمؤلّف من: إيران، روسيا، والصين، التي تعهّدت بالوقوف إلى جانب الجمهورية الإسلامية الإيرانية في مواجهة أميركا وحلفائها على خلفية أزمة صورايخها الباليستية المتطوّرة وملفّها النووي، الذي كان بمثابة خط تماس بين روسيا والصين من جهة وأميركا والغرب من جهة أخرى. وبالنظر إلى جغرافيات الصراع من بحر الصين إلى منطقة القوقاز إلى جورجيا وأوكرانيا إلى إيران والعراق وسوريا، نجدها بوابات الجُرف الأوراسي الذي تسعى الولايات المتحدة الأميركية إلى السيطرة عليه وتفكيكه، كي لا يتحوّل إلى قارة جيوسياسية مناهضة لأميركا، خاصة وأنّ هذا الجُرف يحتوي على مركز الثقل الحيوي والسكاني والطاقوي في العالم.
لا تقتصر تجربة بيونغ يانغ النووية على تهديدات إقليمة ودولية رادعة بالوكالة عن الصين، بل هناك أهداف تتعلق بنظام كوريا الشمالية وأمنها الاستراتيجي ووجودها الحيوي، فهي تدرك تماماً أنّها ستكون ساحة نزال بين الصين وأميركا، مثلما حدث في الخمسينيات حيث خاضت الولايات المتحدة الأميركية الحرب مع الصين في كوريا. لذلك أرادت بيونغ يانغ أن تتحصّن خلف القنبلة الهيدروجينية، لإيجاد معادل توازني مع أميركا وحلفائها في بحر الصين الشرقي، ولحثّها على عقد اتفاقية ضامنة لواقعها النووي. وقد جاء توقيت تجربة هذه القنبلة قبيل مؤتمر حزب العمّال الكوري في أيار المقبل، وبذلك يقدّم الزعيم الكوري الشمالي "كيم جونغ أون" إنجازاً كبيراً لتثبيت دعائم حكمه وتحقيق حلم والده الهادف إلى حماية "الجوتشي"، أي العقيدة الماركسية الوطنية التي تشكّل روحية نظام بيونغ يانغ الذي رفع الصوت عالياً في وجه المجتمع الدولي بعد تجربته الهيدروجينية الأخيرة، وهذه اللهجة التهديدية المرتفعة تهدف أيضاً إلى إجبار أميركا على تقبّل وضعيّة كوريا الشمالية واحتواء ردّات فعلها. فالصين تحرص على استمرار النبرة العالية لنظام بيونغ يانغ ليكون صوتها الصارخ في وجه أميركا والغرب، ورغم الانتقادات الصينية لتجربة كوريا الشمالية الهيدروجينية والشكوك المثارة حول ما إذا كانت نووية طبيعية أم نووية حرارية، إلّا أنّ كل الإشارات تدلّ على أنّ بيونغ يانغ حصلت على هذه التقنية المتطوّرة والمعقّدة من بكين.
إنّ تجربة كوريا الشمالية الأخيرة، سواء كانت نووية أم هيدروجينية، سوف تؤدّي إلى تزايد حدّة الصراع في بحر الصين، وتعقيد الأمور في شبه الجزيرة الكورية، وبالتالي إلى سباق تسلح نووي. ومن المرجّح أن ينجم عن هذا الصراع احتكاك بين أميركا والصين وفق تصريحات بكين حول الاستفزازات الأميركية وحلفائها في البحر الصيني، لكن إمكانية وصول الصراع إلى حرب يبقى أمراً مستبعداً، وسوف يظلّ محصوراً في الكباش الدولي بينهما على العديد من الجغرافيات الاستراتيجية لكليهما.
* مؤسس علم الأنتروستراتيجيا الدولية