ما بين «جنيف 2» و«جنيف 3» كثير من التطورات الميدانية والتحولات السياسية. وقد حرصت واشنطن على مواكبة هذه التطورات ورعايتها من خلال زيارتَي نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لتركيا ووزير الخارجية جون كيري الى للسعودية في وقت كانت إيران تُدشّن مرحلة ما بعد العقوبات بفتح أبواب الاستثمار وبزيارة مثيرة لرئيسها الشيخ حسن روحاني لأوروبا من خلال الفاتيكان وإيطاليا كمحطة أولى ومن ثمّ باريس.
ظاهر الأحداث هذه المرة يعكس حقيقة الواقع والصورة تعكس المعادلة الفعلية الجاري تثبيتها. وقد بدت آثار التفاهم الاميركي - الروسي واضحة في الاندفاعة الاميركية لترتيب الدعوات للوفد المعارض، والأهمّ للعناوين التي طُرحت وصدمت المعارضة السورية:
1- لا مرحلة انتقالية، بل حكومة ائتلافية.
2- سقوط المهل الزمنية لإلزام الرئيس بشار الاسد مغادرة دمشق.
3- يحقّ للأسد أن يترشح لولاية جديدة وعلى الشعب أن يُقرّر بقاءه في السلطة أو رحيله عنها.
في تركيا، استخدم بايدن ورقة أتراك سوريا، ومقابل وعد بعدم إشراكهم، أو بتعبير أوضح، بإقصائهم لاحقاً وإخضاعهم في المنطقة السورية المحاذية لتركيا، نال بايدن وعداً تركياً بالمساعدة في تثبيت الحلّ.
وفي السعودية، ناقش كيري طويلاً الاستقرار السعودي الداخلي «المقدّس» والسعي إلى إنجاز تسوية في اليمن تمنح السعودية نفوذاً ودوراً كبيراً في مقابل إعطاء المعارضة حصّة في السلطة المقبلة وصيغة تحفظ لها دورها في مناطق نفوذها.
ولذلك، تحدّث كيري عن التزام أميركي بحماية النفوذ السياسي السعودي في لبنان من خلال الحفاظ على «اتفاق الطائف» وإنتاج سلطة غير معادية لها مع الإبقاء على التوازنات القائمة حالياً.
في المقابل، تساهم الرياض في تدوير الزوايا في سوريا والعراق. لكنّ التطوّرات السياسية لم تأتِ من الفراغ. ففي ساحات القتال كانت الحملة العسكرية التي بدأها النظام أخيراً بمساندة روسية فاعلة وبالتحالف مع مجموعات «حزب الله» والمتطوّعين الشيعة تُحقّق إنجازات كبيرة.
ففي محافظة اللاذقية، استعاد الجيش السوري النظامي زمامَ المبادرة وهو وصل الى جبل التركمان عند الحدود مع تركيا ويكاد يقطع كلَّ طرق التواصل بين تركيا والشمال السوري ويستعدّ للضربة النهائية في جسر الشغور.
وفي الجنوب، تقدّمٌ إضافي تحصيناً لدمشق، ولكنّ الأهمّ في حلب حيث يستمرّ الجيش النظامي السوري في قضم المواقع والبلدات الواقعة في الريف تمهيداً لقطع خطوط التواصل مع فصائل المعارضة داخل مدينة حلب ومن ثمّ الوصول اليها والسيطرة عليها بكاملها.
ويبدو أنّ النظام السوري يعتبر أنّ استعادة حلب هو هدف مركزي وأساسي لا بدّ من تحقيقه خلال الاشهر القليلة المقبلة وقبل فصل الصيف. وإذا نجح في ذلك، فهذا يعني تثبيت توازنات ميدانية جديدة وإعطاء أرجحية واضحة، ولكن في مقابل الإبقاء على الحضور الميداني للفصائل المعارضة في مناطق اخرى.
من هنا ستبدو محادثات «جنيف 3» صعبة وشائكة، ولكنّها ستكشف مساراً جديداً مختلفاً عمّا شهدته سوريا خلال المراحل الماضية، ولو أنّ إنضاجه سيتطلب إنجازَ هدفَي جسر الشغور وحلب، وأنّ الوقت الفاصل عن ذلك سيكون مفيداً لتليين المواقف ونسج الثوب الجديد.
ولن يكون لبنان بعيداً من تأثيرات التطورات الدائرة في القرب منه. وعلى عكس ما هو ظاهر، فإنّ «حزب الله» بدا أقل تشدّداً منه في السابق، خصوصاً في ملف رئاسة الجمهورية، وقد يكون ذلك مرده الى التطورات الاقليمية، إضافة الى الحركة الناشطة حول الملف الرئاسي والتي، وإن كانت سابقة لأوانها، أدّت الى وضع هذا الملف على الطاولة، بحيث بات يصعب تجاهل المراحل التي قُطعت.
«حزب الله» الذي كان يتابع التقدّم المثير في العلاقة بين واشنطن وطهران، ومن ثمّ التحوّلات الميدانية في سوريا والمشاورات الدائرة لتركيب سلطة جديدة، ربما كان يأمل أن تؤدّي الأزمة الرئاسية العاصفة والتحلّل الذي يصيب مؤسسات الدولة إلى دفع الأمور في اتجاه إعادة إنتاج نظام سياسي جديد في البلد يأخذ في الاعتبار المعادلات الميدانية.
لكنّ قيادة الحزب «الواقعية» والبراغماتية قد تكون لمست الرفض الدولي لذلك، والذي تُرجم من خلال مبادرة طرح ترشيح النائب سليمان فرنجية في مقابل الحفاظ على دستور «الطائف» المعمول به. وإذا كانت هذه المبادرة قد تمت فرملتها خصوصاً من «حزب الله»، لكنها أدّت الى تحريك المياه الراكدة والانتقال الى ترشيح «القوات اللبنانية» للعماد ميشال عون.
وفيما لا يبدو أنّ هناك أيّ حظوظ جدّية في الوقت الراهن لأيٍّ من الطرفين، إلّا أنّ ذلك دفع «حزب الله» الى التقدّم خطوة الى الأمام، والإقرار بأنّ الملف الرئاسي، وإن كان ازداد تعقيداً، لكنه بات على الطاولة ولم يعد على الرف وأنّ عامل الوقت لم يعد في مصلحة اقتناص المكاسب لا بل على العكس.
وفيما استنتجت الأوساط الديبلوماسية أنّ «حزب الله» وبعد طرح مبادرة الحريري يريد ثمناً مباشراً، بات معروفاً بإعادة تطبيق ما اتفق عليه خلال مرحلة الـ«سين- سين» عام 2010، مع ما يتضمّن ذلك من انسحاب لبنان من المحكمة الدولية وتشريع عمل المقاومة وضمانات أمنية، إضافة الى مطالب مستجدة مثل قانون جديد للانتخابات وحقيبة النفط، فإنه تدرّج الى واقع جديد يتحدّث فيه عن سلّتين: السلّة الأولى التي تمذ ذكرها وهي مشروطة كثمن مسبَق لعودة الحريري الى الرئاسة الثالثة.
أمّا في حال القبول بوصول شخصية تُعتبر من الحمائم مثل الرئيس تمام سلام، فإنّ السلّة التي يطلبها الحزب قد تقتصر على قانون جديد للانتخابات وتفاهم على توزيع الحقائب وتوازنات مجلس الوزراء وبعض الضمانات الأمنيّة.
في أيّ حال، لم يعد واقعياً أن يبقى «حزب الله» بعيداً من الساحة الإعلامية، والأرجح أن يتولّى أمينه العام السيد حسن نصرالله هذه المهمة من خلال إطلالة مباشرة وذلك لدقة الملف وتشعباته.
لكنّ ذلك لن يعني أبداً أنّ وقت الحسم الرئاسي اقترب. فالتعقيدات التي طاولت هذا الملف وخلط الأوراق الحاصل بات ينذر بما هو أخطر. فكيف يمكن ولوج الحلول حتى ولو تمّ التفاهم عليها في الكواليس من دون صدمة دموية اعتاد لبنان سلوكها عند المطبات الكبرى.
وخلال الأيام الماضية، عمّمت جهاتٌ لبنانية كبيرة وأخرى دولية على عدد من الشخصيات بعضها مطروح بقوّة للرئاسة، ضرورة توخّي الحذر الشديد وعدم التنقل إلّا في حالات الضرورة القصوى، من الآن وحتى بداية الصيف؟