على وقع جولات ومشاورات مؤتمر جنيف الثالث القائم حالياً، وسط العراقيل الموضوعة أمام فرص نجاحه، بات من الضروري القيام بمراجعة شاملة لمسار الحل السياسي في سوريا، نظراً إلى أنها مفيدة لفهم حقيقة ما يجري على أكثر من صعيد، لا سيما على مستوى الوصول إلى إستنتاجات منطقية.
من هذا المنطلق، يبدو واضحاً أن الميدان العسكري والأمني هو اللاعب الأبرز في أي مفاوضات سياسية، خصوصاً بالنسبة إلى مواقف القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، وهو الذي ساهم ويساهم في تحويل بورصة الأحداث من واجهة إلى أخرى، فمصالح الدول تختلف، من يوم إلى آخر، وفقاً لتطور الأحداث، بعيداً عن العواطف التي لا تزال تسيطر على البعض، والتي ستكون نتائجها كارثية عليه في نهاية المطاف، ولكن كيف تراكمت التحولات وصولاً إلى اليوم؟
في هذا السياق، يمكن ملاحظة التحول الأساسي في الموقف الغربي، لا سيما الأميركي، من الأحداث السورية، من المطالبة باسقاط الرئيس بشار الأسد وصولاً إلى التسليم بدوره في المرحلة المقبلة، بعد أن باتت أغلب قوى المعارضة المسلحة تدور في فلك التنظيمات الإرهابية المتطرفة، من "داعش" إلى "القاعدة" وغيرهما، ما يعني التسليم بأن المحور المقابل، بالتحديد بعد التدخل الروسي المباشر في الحرب، أصبح في موقع المتقدم، على عكس ما كان عليه الوضع في العام 2011.
في شهر حزيران من العام 2011، أصدرت مجموعة العمل من أجل سوريا بيان مؤتمر جنيف الأول، بدعوة من المبعوث الأممي كوفي أنان، مؤكداً بأن أي تسوية سياسية يجب أن تتضمن مرحلة إنتقالية، لكن التفسيرات لم تكن موحدة له، خصوصاً بالنسبة إلى النقطة المتعلقة بتأسيس هيئة حكم انتقالي بسلطات تنفيذية كاملة، تضم أعضاء من النظام والمعارضة، على أن يتم تشكيلها على أساس القبول المتبادل من الجانبين.
في ذلك الوقت، كانت بعض الدول الغربية والعربية، الداعمة لقوى المعارضة، تصعد مواقفها وصولاً إلى الحديث عن فقدان الرئيس الأسد شرعيته، لكن ما يقارب الثلاث سنوات مرّت على عقد مؤتمر جنيف الثاني، أي في شهر كانون الثاني من العام 2014، بعد أن كان باب التفاوض قد فتح بين الجانبين الأميركي والروسي، في شهر آب من العام 2013، على خلفية تهدبدات واشنطن بشن عملية عسكرية في سوريا، تحت عنوان نزع الأسلحة الكيميائية، لكن هذه الأزمة تمت معالجتها لاحقاً بالطرق السلمية.
في مؤتمر جنيف الثاني، الذي عقد بناء على دعوة المبعوث الدولي الجديد الأخضر الإبراهيمي، بسبب الإختلاف بالأولويات بين وفدي المعارضة والحكومة، فالأول أراد التركيز على هيئة الحكم الإنتقالي، في حين كان الثاني يريد توجيه البوصلة إلى تنامي المجموعات الإرهابية على أرض الواقع، ما أدى في نهاية المطاف إلى إفشال المؤتمر بشكل نهائي، بالرغم من إعلان الإبراهيمي عن الإتفاق على جولة ثالثة.
بعد هذا التاريخ، ذهب أغلب اللاعبين الإقليميين والدوليين إلى محاولة تحسين أوراق قواتهم، من دون أن يتمكن أي منهم في حسم الموقف، لكن في الوقت نفسه كان الإتفاق النووي بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والدول الكبرى يوقع، إلا أن التحول الأبرز في مسار الأحداث كان القرار الروسي بالدخول على خط المواجهة، تحت عنوان تقديم المساعدة إلى الجيش السوري في الحرب على الإرهاب، بعد أن كانت الولايات المتحدة قد سبقت موسكو إلى هذه الخطوة، من دون أن تنجح في تحقيق نتائج مهمة.
قبل هذا التاريخ، كانت مجموعات المعارضة المسلحة قد حققت مجموعة من الإنتصارات، خصوصاً في إدلب وجسر الشغور وتدمر وغيرها من المناطق المهمة، بدعم مباشر ظهر من خلال نوعية الأسلحة المستخدمة من قبل الداعمين الإقليميين والدوليين، الأمر الذي من الممكن القول أنه كان من الأسباب الموجبة التي دفعت بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى إتخاذ القرار الإستراتيجي، الذي أثبت جدواه سريعاً من خلال إستعادة القوات السورية زمام المبادرة.
بالتزامن مع هذه التحولات الميدانية، كانت الهجمات التي تعرضت لها العاصمة الفرنسية باريس، بالإضافة إلى إسقاط الطائرة الروسية فوق جزيرة سيناء المصرية، عملاً أساسياً في الوصول، في شهر تشرين الثامن من العام 2015، إلى الإتفاق المفصلي خلال لقاء فيينا، الذي ضم ممثلين عن 17 دولة، والذي نص على جدول زمني محدد لتشكيل حكومة انتقالية في سوريا، خلال ستة أشهر، وإجراء انتخابات خلال 18 شهراً، من تحديد عما إذا كانت رئاسية أم برلمانبة، من دون الإتفاق على مصير الرئيس الأسد.
بعد هذا الإتفاق، جاء قرار مجلس الأمن الدولي، في 18 كانون الأول من العام 2015، الذي ينص على بدء محادثات السلام في سوريا في كانون الثاني 2016، أي على مؤتمر جنيف الثالث، لكن لا توحي المعطيات بأي نتائج إيجابية له، في ظل مواقف قوى المعارضة، المدعومة من المثلث التركي السعودي القطري، التي أغضبت واشنطن نفسها، لأن وقائع الميدان العسكري تجري بعكس ما تشتهي سفنها، الأمر الذي ترجم بوقف الدعم.
في المحصلة، لن تصل الأزمة السورية إلى حلول سلمية خلال وقت قريب، نظراً إلى أن بعض اللاعبيين مصرون على الإستمرار في السياسات نفسها، من دون الذهاب إلى قراءة التحولات الجديدة بشكل منطقي، الأمر الذي يعني أن الكلمة ستعود إلى الميدان العسكري من جديد لتمهيد الطريق نحو مؤتمر جنيف الرابع بظروف مختلفة.