قد تكون مسألة الصراع حول وظيفة من الفئة الثالثة في وزارة المال تمّ سحبها من المسيحيين، خير حافز لهم لتقييم أوضاعهم في ظل "طائف" مبتور ارتضوا به ولم يرضَ بهم، وغدوا غير قادرين على المطالبة حتى بتطبيق ما بقي منه، في زمن ربما باتوا فيه "أهل ذمّة" بدرجة ممتاز، وهذا ليس انتقاصاً من حجم القيادات التي تسعى للحفاظ على الحد الأدنى من مقومات الوجود الكريم، لكن الخلافات والانقسامات على المستوى السياسي التي حصلت وتحصل بين المسيحيين، جعلت ربما "حيطهم واطي" في نظر البعض، والأمور يجب أن تقال كما هي، لأن الوقت لم يعد يسمح بدبلوماسية المجاملات.
مشكلة المسيحيين في لبنان هي هي عبر تاريخهم، وتاريخ خلافاتهم يستعيد نفسه اليوم؛ لا يهدمون جدار فرقة بين فريق وفريق منهم، إلا وينشأ جدار جديد مع فريق مسيحي ثالث، تماماً كما حصل بعد هدم جدار الرابية - معراب، لينشأ عبر التصريحات الإعلامية ومواقع التواصل جدار بين الرابية وبنشعي، وبين بنشعي ومعراب.
وإذا كانت الوحدة المسيحية في الماضي ليست مطلباً، فهي كذلك في الحاضر أيضاً، ويجب ألا تكون هدف المستقبل، سيما أن المسيحيين في الشرق باتوا كما سائر الأقليات مستهدفين، لكنهم مدعوون بالحد الأدنى إلى تعزيز حقوقهم بالمواطنة والشراكة، ليس من منطلق كونهم مسيحيين فقط، بل على الأقل بالمساواة في المعايير الميثاقية، بصفتهم مكونات اجتماعية واجبة الوجود بين المسلمين، لا بل مطلباً إسلامياً تاريخياً في كل قرية ودسكرة من لبنان، لكن المشكلة أنهم مطالبون بأن يكونوا "حلالي العقد بين المسلمين، ويبقى كرسي بعبدا موضع تسوّل لهم، فيما الكرسي الثاني والثالث في الدولة من مقدسات الشركاء.
على المسيحيين قبل الصعود إلى بعبدا، حيث أرفع منصب في الدولة اللبنانية، أن يدافعوا على الأقل عن وظيفة فئة ثالثة تُسلب منهم، والصراع على الوظائف بين السُّنة والشيعة في لبنان باتوا هم "فرق عملة" فيه، وإذا دخلنا في وظائف الفئتين الرابعة والخامسة في كافة دوائر الدولة، وبشكل خاص وزارة العمل والضمان الاجتماعي، لاكتشف المسيحيون أن كرسي بعبدا الذي يتصارعون عليه غير ذات قيمة ولا رمزية أمام حقوقهم المهدورة على الطرقات، نعم على الطرقات، حيث لفظ القانون الأرثوذكسي أنفاسه.
ليست المسألة إسلامية - مسيحية على المستوى الشعبي، بل هي مصيبة وطنية على مائدة المحاصصات المذهبية، وإذا كانت "الغِيلان" من أهل السلطة والمال قادرة على التهام ما لها وما لغيرها، فليس بإمكان المسيحيين انتظار انقراض جيل ومجيء جيل آخر يُنصفهم، لأن السلة المسيحية تتناقص من جيل إلى آخر، و"الغِيلان" تتوالد.
ليس هناك في نظر البعض وزن سياسي للمسيحيين في لبنان، وكل خطوة يُقدم عليها قطب مسيحي فهو حكماً على خطأ، وسواه "معصوم"، وقد "ارتكب سمير جعجع خطيئة مميتة في تقاربه مع العماد عون وتزكيته لرئاسة الجمهورية"، لكن الرئيس سعد الحريري "معصوم" حين يقرر بمعزل عن حلفائه المسيحيين تزكية النائب سليمان فرنجية للمقعد الأول للمسيحيين، والرئيس الحريري معصوم عن تبرير غيابه غير المبرَّر عن لبنان منذ ارتحاله إلى السعودية وبجعبته عشرات النواب، غالبيتهم من مسيحيي "الذمّة".
يدرك الشارع المسيحي على اختلاف تلاوينه، أن المصالحة بين "القوات" و"التيار الوطني الحر" هي خطوة مقدّرة بعد ثلاثة عقود، وستُسهم ضمن الإمكانات في تدعيم حقوق المسيحيين، لكنها ليست لبناء مشروع سياسي يحمل القيمة الاستراتيجية مادام المسيحيون يفاخرون بالتنوّع الفكري، حتى لو تباعدوا، وتقارُب الرابية - معراب حتى لو انضم إليه لاحقاً محورا بكفيا وبنشعي، فإن المسيحيين خاصة بعد انهيار "14 آذار" باتوا يتحركون كل ضمن مدرسته الحزبية أو السياسية المنفردة، وسط خلط الأوراق الإقليمية التي تتحكم باللعبة اللبنانية.
وإذا كانت هناك محاولات خجولة حالياً بين الرابية ومن يمثلون الرئيس الحريري، وأحاديث عن لقاءت في "الكواليس" بين "الكتائب" وحزب الله، فإن معراب بما تمثّل لا يبدو أنها ستكون بعيدة جداً عن محاكاة الضاحية، وهذه اللقاءات سواء تمخضت أو بقيت عقيمة في الوقت الحاضر بانتظار انفراجات إقليمية، فهي تُغني عن كل اللقاءات الطائفية والمذهبية ضمن العائلة الواحدة، وهي التي تعبّد الطريق إلى بعبدا، وهي وحدها التي تساهم في إعادة الحقوق إلى أهلها، من منصب وزير إلى مهنة خفير.