سبعٌ وثلاثون سنة مرّت على انتصار "الثورة الإسلامية" في إيران، تغيّرت فيها الكثير من المعطيات، بل انقلبت فيها بعض الحقائق على مصراعيها، وبقيت هذه "الثورة" عنوانًا لنهج إيران و"خريطة طريق" تسيّر سياساتها، في الشرق كما في الغرب.
سبعٌ وثلاثون سنة مرّت، جرّبت فيها الجمهورية الإسلامية كلّ شيء، فحوربت من كلّ العالم، وفُرِضت عليها العقوبات من كلّ حدبٍ وصوب، عقوباتٌ عرفت كيف تحوّلها من "نقمة" إلى "نعمة"، مستندة إلى ابتكار "الاكتفاء الذاتي".
رغم كلّ ذلك، يبدو أنّ للذكرى السابعة والثلاثين طعمًا من نوعٍ آخر، طعمٌ يشعر به الإيرانيّون للمرّة الأولى، بفعل الاتفاق النووي مع الغرب الذي يدخل حيّز التنفيذ بعدما تحوّل من "حلم" إلى "حقيقة"، حقيقة يصرّ الإيرانيّون على أنّها لن تحيدهم قيد أنملة عن كلّ مبادئهم...
الإنجاز الكبير...
"طوال السنوات السبع والثلاثين المنصرمة، وعلى الرغم من كل المحن والصعوبات والعقوبات الظالمة، وبفضل صمود الشعب والقيادة الحكيمة، تمكّنت إيران من اجتياز كل الامواج العاتية واستطاعت أن تؤمّن الحياة الكريمة لأبنائها".
بهذه العبارات، يختصر السفير الإيراني في بيروت محمد فتحعلي، في دردشة مع عددٍ من الصحافيين شاركت فيها "النشرة"، تجربة 37 عامًا واجهت فيها إيران ما لا يقدر أحدٌ على مواجهته، وتوجّتها باتفاقٍ نووي أقلّ ما يُقال فيه أنّه "إنجازٌ كبيرٌ"، لم تكن المفاوضات التي أفضت إليه سهلة، بل على العكس من ذلك، كانت "شاقة وطويلة الأمد".
وإذا كان فتحعلي يستذكر، بكثيرٍ من الاعتزاز والفخر، انتصار الثورة على يد من يصفه بـ"الرجل البار والقائد التاريخي والعظيم"، في إشارة إلى الإمام الخميني رحمه الله، مذكّراً بخطاب الأخير "الجامِع"، وهو الذي أتى لينقذ الشعب الإيراني من القسوة والظلم والجور، وكلّها سماتٌ كانت تنطبق على "الشاه البائد"، فإنّه يلفت إلى أنّ سير إيران على خطى الإمام الراحل هو الذي جعلها تحتلّ، في الذكرى السابعة والثلاثين للثورة، مرتبة عالية بين الدول العظمى، ومكانة مرموقة في مختلف المجالات، وخصوصًا العلمية والتقنية منها.
الأمر نفسه ينعكس على الاتفاق النووي الذي تمّ التوصل إليه، كما يقول فتحعلي، بفضل مبادئ الثورة نفسها، أي العزم والتصميم والثقة والحكمة والخبرة والنضج الذي تجلى من خلال الفريق المفاوض، رغم أنّ العديد من الأطراف كانت تحاول طوال السنوات الماضية التشويش على الاتفاق حتى لا يحصل، من دون أن تنجح في محاولاتها، ليكون "الانتصار" حليف إيران، التي تمكّنت من المحافظة على ثرواتها ومكتسباتها الوطنية، كما استطاعت أن تبني مناخات ثقة مع كافة دول العالم، ما يجعلها "رابحة" بمختلف المقاييس.
لبنان وسجلّ الشرف!
اللافت في مقاربة إيران لـ"انتصارها النووي" أنّها ترفض "استغلاله" لتحقيق مآرب خاصة في مواجهة دول المنطقة، ومنها من تعاطى بسلبيّة معها ولم يتردّد في التشويش على الاتفاق، حيث يصرّ السفير الإيراني على أنّ "هذا الانتصار الكبير هو برسم المنطقة برمتها"، ويذهب أكثر من ذلك بدعوته الجميع للاستفادة ممّا يصفها "هذه الفرصة الجديدة السانحة".
وفي طليعة هؤلاء "المستفيدين" في منظار الدبلوماسية الإيرانية يأتي لبنان، الذي يمكنه اغتنام هذه الفرصة لتعزيز العلاقات الثنائية في كافة المجالات لا سيما التعاون الاقتصادي. ويقول السفير الإيراني في هذا السياق: "طوال الأشهر الماضية تمكّنّا من تمهيد الأجواء لارسال 3 وفود اقتصادية لبنانية إلى إيران، ونحن على ثقة أنه بفضل المتابعة الدؤوبة سوف تؤدي هذه الزيارات إلى تعزيز التعاون الثنائي بشكل ينعكس إيجاباً على مصالح الدولتين والشعبين".
ولا يكشف السفير الإيراني سراً عندما يعلن أنّ لبنان يحتلّ مكانة مرموقة في السياسة الخارجية لإيران، علمًا أنّ العلاقات الايرانية اللبنانية ليست طارئة أو مستجدة ولكنها تاريخية، وهذا له عدّة أسباب ودلائل كما يقول، ينبثق أولها من المقاومة البطولية التي يبديها الشعب اللبناني في مواجهة العدو الغاشم، فضلاً عن التضحيات الجسام التي قدّمها لبنان والدماء التي بُذِلت والتي أدّلت لتكريس المعادلة الذهبية (الجيش والشعب والمقاومة)، دائمًا وفق توصيف فتحعلي، الذي يرى أيضًا أنّ التضحيات التي قدّمها لبنان في مواجهة قوى التكفير والتطرف سوف تسجّل في صفحات التاريخ كسجلّ شرف للشعب اللبناني.
الرئاسة أمر داخلي...
لا يحتاج المتابع للكثير من العناء والتعب ليدرك أنّ السفير الإيراني يفضّل عدم الولوج في القضايا الداخلية، والانتخابات الرئاسية في صدارتها، رغم كلّ ما يُحكى ويُقال هنا وهناك عن عراقيل وفيتوهات إيرانية تسدّ الباب أمام نضوج أيّ حلّ رئاسيّ، اتهاماتٌ لا يعيرها الرجل الكثير من الاهتمام، طالما أن "لا دليل ولا بيّنة" عليها، وطالما أنّ "الشفافية" باتت صفةً يشهد بها القاصي والداني، والخصم قبل الصديق.
وفي حين يؤكد السفير فتحعلي، الذي بدأت مهامه في لبنان للمفارقة بالتزامن مع الفراغ الرئاسي، ضرورة إيجاد الحلول بعيداً عن أي تدخل خارجي، باعتبار أنّ التدخل الخارجي سوف يعقّد الأزمة وسوف يعيق أي حل مطروح على الساحة، فهو يحرص على ترداد أنّ "الاستحقاق الرئاسي أمر داخلي لبناني"، رافضًا بذلك "تبنّي" مرشح "حزب الله" أو غيره للرئاسة.
هو يؤكد رفضه التدخّل بأي شكل من الأشكال في الشؤون الداخلية اللبنانية وخاصة في المجال الرئاسي، وذلك بناءً على توجيهاتٍ رسمية يلتزم بها، ويكتفي في هذا الصدد بالقول: "نحن ندعم جبهة المقاومة في كافة المجالات وأعلنّا ذلك مراراً وتكراراً، ولكن نعتقد أنه لا ينبغي أن نتدخل في الشؤون الداخلية للدول ولم نتدخل حتى الآن في أي شأن داخلي لأي دولة".
اسألوا الجانب اللبناني!
ولكن، ماذا عن الهبة الإيرانيّة للجيش اللبناني، والتي قيل أنّها عُلّقت سابقاً بسبب العقوبات الدولية، فإذا بها تبقى معلّقة رغم رفع العقوبات بفعل الاتفاق النووي؟
"الجانب اللبناني هو من ينبغي أن يُسأَل هذا السؤال"، يسارع السفير فتحعلي للقول بصيغة الجزم، قبل أن يؤكّد أنّ كلّ ما طرحته إيران في هذا الصدد لا يزال ساريًا، حيث يقول: "نحن في السابق أعلنّا استعدادنا الدائم لانجاز هذا الأمر، وعندما التقيت وزير الدفاع سمير مقبل مؤخراً، قلت له أنّ هذا الاستعداد لا يزال موجوداً".
ما يميّز هذه الهبة الإيرانية خصوصياتٌ عديدة، كما يؤكد فتحعلي، فهي أولاً تُقدَّم للبنان من دون شروط مسبقة، كما أنّها تُقدَّم أيضًا من دون بدل، وقبل هذا وذاك، باحترامٍ كامل للدولة اللبنانية. ويرفض انطلاقاً من ذلك الحديث عن حساباتٍ سياسية ربما تحول دون الموافقة على هذه الهبة، مكتفياً بالقول أنّ "مصلحة الشعب اللبناني ينبغي أن لا تبقى رهينة هذه الحسابات".
كيف يستفيد لبنان؟
وليست الهبة الإيرانية لدعم الجيش اللبناني الاتفاق الوحيد "العالق" بين لبنان وإيران، حيث يكشف السفير الإيراني أنّ بلاده تقوم بالعديد من الخطوات لتفعيل الاتفاقيات الثنائية مع لبنان، لافتاً إلى أنّ الزيارة التي قام بها مؤخراً وزير الاقتصاد آلان حكيم إلى إيران تصبّ في هذا الاتجاه، ويتحدّث فتحعلي عن العديد من الميزات التي يمكن للبنان أن يستفيد منها، فإيران حالياً تصدّر الطاقة الكهربائية إلى العديد من دول الجوار، ولديها خبرات كافية في مجال إنشاء السدود المائية، كما لديها طاقات متقدمة في مجال استكشاف واستخراج وإنتاج النفط، وكذلك في مجال الخدمات الاجتماعية.
ويقول في هذا السياق: "نأمل أن نتمكن من أن نطبق ونفعل البروتوكولات والاتفاقات التي سبق أن وُقّعت سابقاً كما التي وُقّعت في هذه المرحلة"، ويلفت إلى أنّ إيران لديها سوق استهلاكية تصل إلى 80 مليون نسمة وهي تعيش في منطقة يصل عدد سكانها إلى 400 مليون نسمة وتجاور 15 دولة، وهذا الأمر بحد ذاته فرصة سانحة ينبغي أن تستغَلّ من الجانب اللبناني.
جرحٌ مفتوح
وبالحديث عن القضايا العالقة بين لبنان وإيران، يحضر بقوة ملف الدبلوماسيين الإيرانيين الأربعة المفقودين، الذي يؤكد السفير الإيراني أنه لا يزال مفتوحاً، مشيراً إلى أنّ السفارة تقوم بالدور المطلوب منها في معالجة هذا الملف، ويقول: "نتابع مع الجهات اللبنانية هذا الموضوع بشكل دائم ونطلب أن يقوم الجانب اللبناني بالمسؤوليات المطلوبة منه في هذا المجال، فنحن نتعرض للضغط المعنوي من قبل الرأي العام الإيراني ووزارة الخارجية الايرانية وكل السلطات تتابع بشكل دؤوب وحثيث كل ما يطلب منها".
ولا يقلّ التفجير الإرهابي الذي استهدف مقرّ السفارة الإيرانية في بيروت قبل عامين، أهمية في ذهن السفير فتحعلي، خصوصًا أنّ لبنانيين أبرياء سقطوا نتيجة هذا التفجير، إضافة إلى المستشار الثقافي في السفارة، ويؤكد أنّ هذا الموضوع مطروحٌ في كلّ لقاءاته مع الجهات المعنيّة في لبنان، خصوصًا أنّ السفارة الإيرانية في بيروت تتعرّض لضغط معنوي من قبل الجهات المعنية في إيران لملاحقة حيثيات هذه الحادثة المؤسفة.
وقفة رجل واحد...
ومن هنا، ينطلق السفير الإيراني ليقارب موضوع الإرهاب المستفحل في المنطقة، إرهابٌ بات من الواضح برأيه أنه يستهدف المنطقة برمّتها، ولا يستهدف دولة بذاتها أو شعباً بعينه، ما يستدعي اتحاداً حقيقياً من قبل مختلف الدول في المنطقة لمواجهته، علمًا أنّه يحرص على القول أنّ ايران منذ اللحظة الأولى لقيامها كان لديها نية راسخة لتأسيس علاقات مودة واحترام متبادل مع كلّ الدول ولا سيما دول المنطقة وخصوصاً الدول التي تجاورها في الخليج الفارسي، منبّهاً إلى أنّ المستفيد الأول من أي خلاف داخلي ينشب بين دول المنطقة هو الكيان الصهيوني.
هنا، يعرب فتحعلي عن قناعته بأنّ هذه القوى التكفيرية هي من إفرازات الكيان الصهيوني، ولأن الخطر داهم ويتهدد الجميع، على كافة دول المنطقة أن تتحرك بشكل متحد لدرء هذا الخطر، علمًا أنّ إيران على امتداد التاريخ كانت دوماً في مواجهة القوى التكفيرية والمتطرفة، ومن الشواهد على ذلك الدعم الايراني الذي يقدَّم لسوريا في مواجهة التطرف وكذلك في العراق، ويقول: "نعتقد أنّ إيران بإمكانها أن تقدم دعمًا لا يستهان به لدول المنطقة، وعلى جميع دول المنطقة أن تتحد وأن تواجد كرجل واحد هذا الخطر".
الحوار أولاً
وانطلاقاً من مبدأ أنّ "دول المنطقة بإمكانها من خلال قدراتها الذاتية أن تتحرك لمواجهة مشاكلها دون أي تحرك من الخارج"، يعرّج السفير الإيراني على مختلف القضايا العالقة في المنطقة، وفي مقدّمها الأزمة السورية، حيث يذكّر بموقف بلاده منذ اليوم الأول لقيامها، ومفاده أنّ الشعب السوري هو الذي يحق له تقرير مصيره، وأنّ الحلّ السياسي هو الحلّ المنطقي الوحيد لمعالجة الأزمة. ويلفت إلى أنّ سوريا حجزت لنفسها بطاقة ذهبية في التاريخ المشرّف في مواجهة الحقد والتطرف، وذلك من خلال الصمود الذي أبدته قيادة وجيشا وشعباً بمساندة المقاومة، مع تشديده في الوقت عينه على أنّ الكيان الصهيوني له دور مباشر في التسبّب بالأزمة السورية وفي استمرارها وفي استفحالها.
وتنطبق المقاربة الإيرانية للأزمة في سوريا على نظيرتها في اليمن، حيث يشدّد السفير الإيراني على أنّ الطريق الوحيد للحل هناك هو قيام حوار يمني يمني تحت إشراف محايد من قبل الأمم المتحدة، وهو موقفٌ لا يتردّد في تعميمه على كافة الدول، باعتبار أنّ أيّ معضلة أو مشكلة داخلية في أيّ دولة من الدول ينبغي أن تعالَج بالحوار.
التاريخ لن يرحمنا...
ولأنّ البوصلة الإيرانية تبقى "واضحة"، فإنّ الحديث مع السفير الإيراني لا يكتمل من دون أن تحضر القضية الفلسطينية، قضية يتمنّى فتحعلي لو تحضر على أجندة اجتماعات جامعة الدول العربية ومنظمة دول مجلس التعاون الإسلامي، في ضوء الاعتداءات الإسرائيلية التي تمارس بشكل يومي ضد الشعب الفلسطيني البطل.
وفي هذا السياق، يتفاءل السفير الإيراني بالهبّة المستمرة بزخم قوي، كما يقول، للشهر الخامس على التوالي، مشيراً إلى أنّ الشعب ينتفض دفاعاً عن حقوقه المغتصبة والمهدورة، ويقول: "نحن مطالبون بأن ندعم ونساند هذه الانتفاضة الباسلة، فالتاريخ لن يرحمنا إذا قصّرنا في هذا المجال".
لا تنسوا الاتجاه!
هي الدبلوماسية الإيرانية لم تتغيّر إذًا، دبلوماسية لطالما عبّر عنها السفير الإيراني السابق الراحل غضنفر ركن أبادي، الذي تبقى "روحه" الحاضرة الأكبر، والذي تُضاف حادثة منى التي أدّت إلى رحيله لسلسلة الملفات "الشائكة" في أيّ حديثٍ مع مسؤولٍ إيراني.
هنا، يقول "خلف" أبادي، محمد فتحعلي، أنّ القضية ستُتابَع ببعديها الحقوقي والقانوني، متابعة لا يبدو أنّ المُراد منها "توتير" على أيّ خط، انطلاقاً من "كلمة سرّ" ينقلها فتحعلي عن الإمامين الخميني والخامنئي، وفحواها: لا تنسوا اتجاه البوصلة!