مع الصعود الأميركي بعد الحرب العالمية الأولى، لأنها لم تشارك في هذه الحرب ولم تصل إلى أراضيها، لكنها حصدت الملايين من البشر ودمّرت دولاً واقتصاديات، تكرست الهيمنة الأميركية على الغرب، لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية التي شاركت الولايات المتحدة في أواخرها، وقدّمت النموذج الأفظع في نتائجها، بتجربتها قنبلتين ذريتين ألقتهما على هيروشيما ونكازاغي في اليابان، وأيضاً لم تصل هذه الحرب إلى أراضيها، وحصدت نتائج مباشرة اقتصادياً وسياسياً، سواء لجهة إنهاك القارة العجوز التي دارت معظم الحرب في مساحتها، أو في سرقتها الأدمغة البشرية التي ترجمت هيمنة مطلقة على دول الغرب الأوروبي، والاستيلاء على المستعمرات القديمة ومراكز السيطرة لهذا الغرب بطريقة غير مباشرة، من خلال الهيمنة الاقتصادية، وبالتالي السياسية.
منذ ما قبل الحرب الأولى، كانت الحركة الصهيونية ترى أن الأميركي الصاعد ما وراء البحار والمحيطات يستحق المراهنة عليه، وتكرّست هذه المراهنة خلال وبعد الحربين، وبالتالي للعمل والتأثير والفعل في القرارات والإدارة الأميركية بما يخدم المصالح الصهيونية.
عبد العزيز آل سعود الذي صنع "عرشه" الإنكليز، ومكّنوه بالدم والحديد والنار من السيطرة على بلاد الحجاز ونجد، وهم الذين كانوا يتلاعبون بمنطقتنا العربية كما يلعب لاعب كرة القدم بالطابة، خصوصاً أنه لمس كيف تلاعبوا بالأسرة الهاشمية من الشريف حسين وانتهاء بالملك غازي، وحافظوا على بقاياها في إمارة شرق الأردن، ما يعني أنهم قد يستعملون بقاياها في لحظة ما لمواجهة "عرشه"، لعبها من خلف ضهر الإنكليز وكان لقاؤه عام 1945 في البحيرة المرة في قناة السويس، فقدّم لأميركا كل شيء؛ أعطاها الذهب الأسود في باطن أرض بلاد مهبط الوحي، والقرار السياسي، وكل الحقوق، مقابل "العرش" له ولاولاده من بعده.
ربما لم يدرك أو يعرف فعلاً أن العواصف في الصحاري لا يعرف المرء متى تهب، والوقت أيضاً قد يكون غدّاراً، ولا يمكن التكهّن بما قد يحمله المستقبل.. إذاً هو كعواصف الصحراء.
يقال إن من أحلام عبد العزيز كانت أن تمتد الصحراء الحجازية إلى وادي بردى وحدائق بابل وبلاد ما بين النهرين، لكن السيف الإنكليزي لم يساعده إلا بتكريسه في الحجاز ونجد، ولأن "تاريخ الصحراء" على حد تعبير زميلنا نبيه البرجي "لا يسير في خط مستقيم"، كان الصنو الآخر لـ"أبناء العمومة" الذين مكّنوا من اغتصاب فلسطين.
لم تتغير سياسة العرش الصحراوي على مسافة الزمن بشأن هذه الأطماع، ففي العام 1958، وبُعيد إعلان الوحدة، كشف الرئيس جمال عبد الناصر بالوثائق عن المبلغ الذي قدّمه الملك سعود بن عبد العزيز لاغتياله، وكشفت الوثائق الأميركية عن رسالة الملك فيصل للرئيس الأميركي ليندون جونسون قبل سبعة أشهر من حرب حزيران 1967، لضرورة مساعدة "إسرائيل" على توجيه ضربة عسكرية لجمال عبد الناصر، ولسورية، وإنهاء قضية فلسطين باحتلال الضفة والقطاع..
وبين 1961 و1967، سخّرت مملكة الرمال كل الإمكانيات المالية والعسكرية والمرتزقة ضد الجيش المصري لإنهاكه في اليمن، واجهاض ثورته الفتيّة.
"مآثر" السعودية على العروبة لا تُعدّ ولا تُحصى، وبسرعة نشير إلى مبادراتها في هذا المجال، فنذكر بمبادرة ولي العهد السعودي فهد بن عبد العزيز قبل أن يصير ملكاً، في قمة فاس 1981 و1982، والتي فيها اعتراف صريح بكيان العدو.
وقمة بيروت 2002، وفيها تكريس لهذا الاعتراف، مضافاً إليه إلغاء حق العودة، عبر مبادرة الأمير عبدالله قبل أن يصير ملكاً، لكن مواقف رئيس لبنان إميل لحود في حينه أفشلت إلغاء حق العودة، رغم كل التهديد والتهويل.
وهل ننسى وصْف المقاومين اللبنانيين إبان تصديهم للعدو في حرب تموز 2006، بـ"المغامرين"..!
لن نشير إلى "المآثر" السعودية من غزو العراق، لكن نكتفي بالإشارة إلى دورها في "فورة" ما يسمى "الربيع العربي"، وتحديداً في سورية، وآخر فصولها الإعلان عن إنشاء قوة من 150 ألف مرتزق لمقاتلة الدولة الوطنية السورية تحت عنوان مقاتلة "داعش" في الشمال السوري، فمن يمكنه أن يصدق ذلك، في ظل الهزائم المتلاحقة التي تلحق بالقوى الإرهابية في الشمال والجنوب السوري، في وقت توفّر كل أسباب البقاء لمجاميع الإرهاب، وما انتشار "داعش" و"القاعدة" في جنوب اليمن مع الحرب السعودية المتواصلة على هذه البلاد إلا دليل عملي بسيط على السلوك السعودي.
في الخلاصة، الجيش السوري وحلفاؤه يتقدّمون في الشمال والجنوب السوريَّين، ويقتربان من الحدود التركية، فهل ستكون السعودية التي بدأت تعاني من أزمات اقتصادية خانقة جراء المغامرات الطائشة، أمام دفع ثمن باهظ..؟
نكتفي هنا بالإشارة إلى أمير الظلام ريتشارد بيرل، الذي كان يعمل مستشاراً في البنتاغون الأميركي في عهد جورج بوش الابن، حيث كان يأتي بالباحثين والمحاضرين ليحاضروا أمام جنرالات الولايات المتحدة عن ضرورة التغيير في المملكة السعودية، "وإلا سينفجر الوضع في وجهنا".
السعودية الآن تخوض مغامرات غير مهيَّأة لها في العراق وسورية واليمن وليبيا والخليج، وتعاني من أزمات اقتصادية مُرّة، وعجز في الميزانية العامة.. فهل ستدفع الثمن؟
الأيام المقبلة ستحمل الإجابات الحقيقية..