كثيرة هي الأعياد والمُناسبات المليئة بالمعاني والخلفيّات الدينيّة والتي تحوّلت مع الوقت، وبفعل طغيان تأثير كل من رؤوس الأموال والنمط الإجتماعي ووسائل الإعلام والتواصل على إختلاف أنواعها، إلى مُناسبات مَحض تجاريّة لا علاقة لها بالبُعد الديني الذي إنطلقت منه، وحتى إلى محطّات للسرقة المَوصوفة من جيوب المُستهلكين من دون حسيب أو رقيب! وإذا كانت هذه الظاهرة تجتاح العالم أجمع بنسب مُتفاوتة، فإنّها في لبنان تبلغ ذروة الإنحراف، بسبب التنافس المُصطنع وحبّ الظهور من قبل العموم، وبسبب الإستغلال غير المَضبوط من قبل التجّار. والأمثلة كثيرة...
بالأمس القريب مرّ عيد "القدّيسة بربارة" خجولاً في حين أخذ عيد "الهالوين" ضجّة واسعة، بسبب إمتداداته العالميّة، علمًا أنّ الفرق شاسع حتى التناقض التام بين هذين العيدين الذي يخلط بينهما الكثيرون بفعل قلّة المعرفة. فعيد بربارة التي ولدت لأبوين وثنيّين في العام 284 قبل أن تتحوّل إلى المسيحيّة هو لتكريم قدّيسة تحدّت الموت من أجل إيمانها(1)، ولا يمتّ بصلة إلى عيد "هالوين" الوثني والتنكّري والذي تعود جذوره إلى شعب "السيلت" الذي كان يسكن في إيرلندا والذي كان يُؤمن بما يعتبره "إله الموت"(2). وبالتالي، بدلاً من تذكّر الإضطهاد الذي كان يُعاني منه من يعتنق الديانة المسيحيّة، ومحاولة التمثّل بمسيرات القدّيسين، دفعنا التكامل بين العالم الإستهلاكي والمُجتمعات غير المُؤمنة إلى عادات وتقاليد مُلحدة، لا بل مُعاكسة للدين المسيحي، وصارت الأولويّة لتسويق مُنتجات تجاريّة وتحقيق الأرباح الطائلة من قبل التجّار، وللترفيه والتسلية غير المسؤولة من قبل المواطنين ولو على حساب القيم الإجتماعية والمُعتقدات الدينيّة النقيّة.
ومن بين الأمثلة أيضًا على هذا الإنحراف اللاوعي للكثيرين، تاريخ الرابع عشر من شباط الذي تحوّل من مناسبة لتكريم الأسقف الإيطالي "فالانتينو" الذي عاش في القرن الثالث، وإشتهر في عهد الأمبراطور "كلوديوس" الذي تميّز حكمه بكثير من الإضطهاد للمسيحيّين، إلى محطة شبه إلزاميّة للتعرّض للسرقة المُنظّمة والعلنيّة! فبدلاً من التوقّف باحترام أمام "إنتصار الحبّ" الذي مثّله هذا الأسقف الذي تحدّى الوثنيّة التي كانت سائدة في زمنه، وعمل على نشر التعاليم المسيحيّة وعلى تقديم "سرّ الزواج"، قبل أن يُحكم بالموت ويُقطع رأسه(3)، إنجرفنا في عادات إستهلاكيّة غريبة تحت عنوان "عيد العشّاق" أو "عيد الحُبّ"، حيث صار الترويج يشمل الورود والبطاقات(4)ونماذج الدببة والقلوب، والمجوهرات على أنواعها، والثياب ومئات المُنتجات والكماليّات التي تحمل اللون الأحمر أو رمز القلب، إلخ. وتُقام بالمناسبة حفلات موسيقيّة، وسهرات راقصة، كما تُفتح أبواب الفنادق لمن يرغب بإستكمال ليلته الحمراء. وفي لبنان حيث زاد الإهتمام بهذا "العيد" بشكل واضح بعد إنتهاء الحرب في التسعينات، صارت ذكرى القدّيس "فالانتين" مُناسبة لحثّ المواطنين على دفع الأموال الطائلة مُجاراة للدُرجة السائدة فقط لا غير! فمن لا يُشارك بهذه العادات يُوحي وكأنّه لا يعيش حالة حبّ، أو كأنّه من النوع البخيل وغير المُستعدّ للدفع بسخاء إكرامًا لمن يُحبّ! وعلى سبيل المثال، في حال تصفّح الموقع الإلكتروني لأبرز سلسلة لبيع الزهور في لبنان، نجد أنّ سعر باقة الورد الأحمر العادية (12 وردة) يبلغ 70 دولارًا، يُضاف إليها 7 دولارات بدل نقل وتسليم ضمن مسافة جغرافية مُحدّدة وقصيرة، في حين يتراوح سعر باقات الورد المُحضّرة سلفًا ما بين 35 دولارًا للباقة الأرخص والتي تتكوّن من وردتين مع بعض الحشائش والرباط، و1,300 (ألف وثلاثمئة دولار وليس مئة وثلاثين!) للباقة الأغلى والتي تتكوّن من 250 وردة حمراء بشكل قلب!
في الخلاصة، لا شك أنّ من حق كل إنسان أن يفرح ويمرح ويعيش قصص الحب الجارف، لكنّ ما ليس مقبولاً هو تشويه أيّ رمز دينيّ أو مناسبة دينيّة تحت أيّ حجّة، وما ليس مقبولاً أيضًا هو أن يستغلّ التجّار هذه المناسبات لتحقيق الأرباح الطائلة والخياليّة بحجّة الإقتصاد الحُرّ. وتصحيح هذا الإنحراف المزدوج يستوجب المزيد من الوعي والتثقيف للمواطنين، والمزيد من المُراقبة الرسميّة للتجّار ولأسعار منتجاتهم.
(1)ولدت بربارة في نيقوديميا لعائلة ثريّة، ويُحكى أنها كانت جميلة جدًا، ومن شدّة خوف والدها الوثني عليها حجز حريّتها وأحاطها بالأصنام. وشاءت الصدفة أنّه كان من بين الفريق الذي وضعه والدها في خدمتها، مسيحيّون عرّفوها سرًّا إلى الدين المسيحي فآمنت به. وعندما جاهرت بذلك، تعرّضت للإضطهاد وإضطرّت للفرار قبل أن يُلقى القبض عليها ويتمّ قتلها بقطع الرأس.
(2)شعب الـCelts الوثني المُعتقد، كان يؤمن بما يعتبره "إله الموت" Samhain، وكان يعتقد أنّ أرواح الموتى تجوب الأرض في يوم عيد هذا الأخير في 31 تشرين الأوّل، وأنّه من الضروري تقديم التضحيات الدمويّة لها وجمع الأموال لإسترضائها. وما إستخدام اليقطينة المنحوتة سوى للسخرية من تكريم المسيحيّين لبقايا وجماجم القدّيسين، مع التذكير أنّ "الهالوين" سبق ظهور المسيحيّة لكنّه إستمرّ بعدها.
(3)وُلد القديس "فالانتاين" في مدينة Terni الإيطاليّة، وقد كرّس حياته لتقوية إيمان الجماعة المسيحيّة التي كانت مُضطهدة في فترة القرن الثالث. وفي خضم حروب تلك الحقبة، أصدر الأمبراطور كلوديوس قرارًا بمنع زواج الجُنود، بحجّة أنّ الزواج سيشغلهم عن المعارك والحروب التي كانوا يخوضونها، لكنّ الأسقف "فالانتاين" خالف هذا القرار وبقي يمنح "سرّ الزواج" ويُبشّر بالمسيحيّة. وهو إستمرّ في ذلك حتى بعد سجنه، قبل أن يتم إعدامه بقطع الرأس في 14 شباط من العام 296.
(4)بحسب إحصاءات "الرابطة التجاريّة لناشري بطاقات المُعايدة" في الولايات المتحدة الأميركيّة، فإنّ عدد بطاقات "عيد الحبّ" التي يتم تداولها سنويًا في مختلف أنحاء العالم لا يقلّ عن مليار بطاقة، ما يجعل هذا العيد في المرتبة الثانية مُباشرة خلف عدد بطاقات المُعايدة التي يتم إرسالها في عيد الميلاد.