بالرغم من الضجيج اللبناني الداخلي المتصاعد، والتلهّي بالرئاسيات، وصرف الكثير من الحبر على موضوع الرئاسة وإحصائيات غبّ الطلب، يبقى المسرح الحقيقي لكل ما يمكن أن يحصل في المنطقة ولبنان ونتائج الشغور الرئاسي مرتبطاً بما سيحصل في معركة حلب الكبرى، التي يمكن أن يقال إن نتيجتها سترسم بحق خريطة المنطقة الشرق أوسطية، وخرائط النفوذ العالمية فيها.
لعل عودة الرئيس الحريري، وإعلانه عن نيّته البقاء في لبنان مدة طويلة، والسهام التي أطلقها على حزب الله في ذكرى اغتيال والده، تندرج جميعها في الحرب الكبرى القائمة في المنطقة وفي الشمال السوري، والتي تدرك السعودية وتركيا جيداً أن نتائجها سترسم معالم الحل السوري برمّته.
خلال الحرب القائمة مع إيران، تحرص السعودية على أوراقها في لبنان، وتحاول - من خلال المتاح لبنانياً - أن تُبقي الجبهة اللبنانية مشتعلة لاستخدامها في تلك الحرب، تماماً كما في اليمن وسورية والعراق والنفط وسواها، ويمكن قراءة التصعيد الحريريّ كجزء من تصعيد سعودي ممتد من حدود باب المندب جنوباً حتى الحدود التركية شمالاً، والذي يتجلى في:
1- إطلاق تدريبات "رعد الشمال"، والتي أعلنت السعودية أن جنوداً من عشرين جيشاً من بلدان عربية وإسلامية سوف يشاركون في تلك التدريبات، إضافة إلى قوات درع الجزيرة. ولعل اختيار منطقة "حفر الباطن" شمال شرق المملكة، القريبة من الحدود العراقية والأردنية معاً، تشي بأن الرياض تريد أن ترسل رسائل قريبة وبعيدة المدى بأنها مستعدة للحرب، ولا تخشى المنازلة في كلا البلدين، ولديها من الحلفاء بما يمكّنها من الانتصار.
2- التهديدات السعودية بتدخُّل برّي في سورية، وإعلان أن المملكة نقلت طائرات إلى قاعدة انجرليك التركية تمهيداً لحرب برّية ستقوم بها تركيا والسعودية تحت ستار قتال "داعش"، بينما هي في الحقيقة ردّ على تبدل موازين القوى الميدانية في الشمال السوري وانهيار المسلحين فيها.
هذه التهديدات السعودية تأتي في وقت كشفت حرب اليمن ضعف الجيش السعودي عموماً، وعدم امتلاكه الخبرة الكافية للانتصار في حرب بريّة، وأنه امتلك فقط تفوقاً عسكرياً جوياً على اليمنيين، لكن هذا التفوق الجوّي في اليمن لا يقارَن بما يملكه الروس من سلاح جوّي استطاعوا من خلاله فرض سيطرتهم وتفوّقهم حتى على نظرائهم الأوروبيين فوق سورية.
في الواقع، فإن حرب اليمن تلك كشفت أن المملكة خلال تاريخها لم تبنِِ جيشاً سعودياً قوياً، إما لاتكالها على الاتفاقيات المعقودة مع الأميركيين لحفظ أمن المملكة، أو لأن الأسرة الحاكمة خشيت من أن يتكرر معها سيناريو الانقلابات العسكرية التي حصلت في العالم العربي في منتصف القرن الماضي، بعدما قامت الجيوش بتسلُّم السلطة في كل من مصر والعراق وسورية وليبيا، فكان القرار بتأسيس جيش يقوم بحماية الأسرة المالكة، ولا يتمتع بالقوة الكافية للمراهنة على الانقلاب عليها.
3- أما في لبنان، فتدرك السعودية جيداً أن خسارتها في سورية سترتدّ سلباً على حلفائها في لبنان، لكنها في الوقت نفسه متيقّنة من أن موازين القوى اللبنانية، وعدم قدرة طرف لبناني - مهما عظمت قوته - على إلغاء دور الأطراف الأخرى، بالإضافة إلى الترتيبات الدستورية التي أرستها السعودية بنفسها من خلال اتفاق الطائف، لا تسمح بإلغاء دورها بشكل كامل، حتى لو خسرت ميدانياً في سورية. لذلك، تهدف المملكة إلى إبقاء فتيل التوتر قائماً في لبنان، لكي تبقي الساحة اللبنانية ساحة ضغط على حزب الله ومن ورائه إيران، بالإضافة إلى محاولة لملمة صفوف حلفائها، وإجبارهم على عدم فرط تحالفهم، بالرغم من كل ما حصل من تصدّعات في صفوف "14 آذار" بعد تفاهم الحريري - فرنجية.
وإلى أن يحين أوان التسوية في سورية، والتي لن تأتي إلا بانكسار عسكري لأحد الطرفين المتصارعين - ويبدو لغاية الآن أنه سيكون من نصيب تركيا والسعودية - ستبقى الساحة اللبنانية عرضة للتسخين السياسي الكلامي المضبوط، والذي لن يقدم ولن يؤخّر في النتائج الرئاسية، ولا في الأحجام، ولا على الشكل الخارجي لكل من "8 و14 آذار"، الممنوعَيْن من الانفراط بقرارات إقليمية.