الواجهة الزجاجية الوسيعة، تلقي كثيراً من الضوء على مساحة مكتب قائد الجيش اللبناني العماد جان قهوجي. تبدو من هنا أجزاءٌ من مباني وزارة الدفاع، وخلفها زُرقة بحر بيروت، تظللها غمامة من الغبار فتخفي معالمها في ظهيرة يوم أمس.
بكثيرٍ من الطمأنينة، يُبرِّد قهوجي قلوب سائليه عن الوضع الأمني في البلاد. من عرسال، إلى الخلايا الإرهابية في الداخل والحدود اللبنانية السورية، والحدود مع فلسطين المحتلّة، إلى استقرار مخيّمات اللاجئين الفلسطينيين. لدى الرجل الكثير من المخاطر ليفكّر فيها.
لكنّ الجنرال العائد لتوّه من جولة في الولايات المتحدة الأميركية أجرى فيها أكثر من 35 لقاءً، يحمل في جيبه عناوين عديدة لاستقرار لبنان... اللهم في هذه المرحلة. «إذا رآنا الغربيون مستهترين بأمننا، فلن يكون لدى أحد منهم أيّ مانع بوضع لبنان على سكّة التفجير كالعراق وسوريا. هناك أكثر من 300 ألف ضحيّة في سوريا، ولن يكون هناك مشكلة إذا زادوا 10 آلاف في لبنان، لكنّ اللبنانيين أثبتوا في السنوات الماضية أنهم يريدون الحفاظ على بلدهم، وهكذا تسير الأمور»، يقول قهوجي. سمع قائد الجيش في الجولة الأميركية كلاماً مطمئناً: «حافظوا على الجيش وعلى مؤسسات الدولة لتمرّ العاصفة».
بحسب القائد، فإن «الأمور تغيّرت كثيراً الآن لدى الغربيين والأميركيين؛ داعش وجبهة النصرة تنظيمان إرهابيان بلا أدنى شكّ، الجميع توقّف عن محاولات إيجاد حسنات في النصرة. أنا شخصياً كررت في لقاءاتي كيف أن غالبية هذه التنظيمات مشتقة من فكر القاعدة، وتمثّل خطراً على العالم». ويضيف أنه «بات لدى الأميركيين اقتناع بضرورة الحفاظ على الجيش والدولة السوريَّين، ولا يريدون تكرار سيناريو العراق أبداً بإسقاط الدولة وحلّ الجيش».
هل تدخل قوّات سعودية وتركية إلى سوريا؟ يقول قهوجي إنه حتى الآن الأمور ليست واضحة، «سنشارك في مؤتمر الكويت لقادة جيوش التحالف (التحالف الذي تقوده أميركا لمحاربة داعش)، وهناك أستمع إلى زملائي ونفهم أكثر الأجواء. نحن لسنا جزءاً من التحالف، لكننا نشارك لنفهم الاستراتيجيات».
بالنسبة إلى الجيش، كان كل الخطر من أن تتحوّل منطقة حمص إلى تهديد كبير على لبنان، «التحوّلات الميدانية الأخيرة تريحنا كثيراً في حمص، أنا أبلغت الأميركيين والأوروبيين أكثر من مرّة أنه فيما لو نجح الإرهابيون في السيطرة على هذه المنطقة، لدخلوا لبنان ووصلوا إلى البحر، وهم أكدّوا أن لديهم الرؤية ذاتها». يرتشف الجنرال قهوته من فنجان أبيض مطبوع عليه شعار الجيش، ثم يروي كيف أنه لم ينم طوال الليلة التي سيطر فيها إرهابيو «داعش» على بلدة مهين السورية في ريف حمص الجنوبي الشرقي قبل أكثر من ثلاثة أشهر، وبقي يتابع سير العمليات العسكرية خلف الحدود، لمدى تأثيرها على جبهة عرسال، وارتباطها بخطوط إمداد المسلّحين، من عرسال إلى الداخل السوري وصولاً إلى الرّقة (استعاد الجيش السوري بلدة مهين قبل نحو شهرين).
كيف الأحوال في عرسال؟ يعود القائد إلى الخلية التي أوقفها الجيش وقتل بعض عناصرها قبل نحو أسبوعين، في داخل البلدة وعلى أطرافها. «عرسال البلدة أمورها أفضل بفضل وضع الجيش المتماسك للغاية وتعاون الأهالي، وحين تُقطع الطريق عن المسلّحين نهائياً من الداخل السوري نستطيع أن نهاجمهم في الجرود، وهم يقتل بعضهم بعضاً الآن، ونحن نضرب أي تحرّك لهم بما توافر من أسلحة»، لكن «لدينا مشكلة بعدد السكان في البلدة مع وجود 100 ألف نازح سوري فيها يضافون إلى سكّانها، ولا يمكننا نشر آلاف الجنود داخل بلدة واحدة، لذلك نقوم بعمليات نوعية حتى لا نعرّض المدنيين للخطر، وفي المرة الماضية ضربنا خلية داخل البلدة بعملية نظيفة».
يستلّ الجنرال من درج مكتبه هاتفاً جوالاً، ويضع نظارته فوق عينيه. في الهاتف أكثر من مقطع فيديو لعمليات استهداف قام بها الجيش لآليات وأفراد من المسلحين في جرود عرسال. الفيديوات تبدو حماسية، ويمكن أن تعطي اللبنانيين شحنة من المعنويات، لكنّ قائد الجيش يفضّل أن لا تنشرها مديرية التوجيه الآن، حتى «يبقى المسلّح خائفاً، ولا يعرف نوع السلاح ولا من أين تأتيه الضربة».
السلاح والذخائر باتت مؤمّنة بنسبة كبيرة للجيش، طبعاً من الأميركيين، «هناك مساهمات من دول عديدة، لكنّها تبقى رمزية. التسليح الأميركي هو الأكبر»، يؤكّد قهوجي. لا جديد حول الهبات المالية التي وُعِد بها لبنان من السعودية والرئيس سعد الحريري لشراء السلاح، لكن طائرات الـ«سوبر توكانو الست التي وُعِدنا بها سنحصل عليها من الأميركيين. رغم ذلك، نتمنّى أن تصلنا الأموال من هبة المليار لندفع ثمنها». بدأ الجيش منذ فترة باستعمال كل قواعده الجويّة، من رياق إلى حامات والقليعات، والطائرات الست التي ينتظر الجيش وصولها ليست طائرات مقاتلة، بل طائرات للقصف، ويمكن أن تساعد في التمهيد للتقدم البرّي. «سيقولون إن هذه الطائرات لن نستطيع أن نواجه إسرائيل بها، لكن هذه قدرتنا المالية، والجيش اللبناني لا يستطيع وحده قتال إسرائيل التي هزمت الجيوش العربية مجتمعة في حربين»، يقول قهوجي. ماذا عن سلاح المقاومة؟ يردّ الجنرال: «قلت في أميركا إن سلاح المقاومة في لبنان مرتبط بالصراع العربي ــ الإسرائيلي».
أوضاع المخيّمات الفلسطينية لا تقلق قائد الجيش. «القوى الفلسطينية واعية لمدى المخاطر، ونحاول مع حركة فتح والفصائل الأخرى الانتباه قدر المستطاع، ولا شيء الآن يثير الخوف». أمّا الخلايا الإرهابية في الداخل، فلدى القائد طمأنينة لما تقوم به الأجهزة الأمنية، ودور الجيش في حفظ الأمن.
تبقى مسألتان. لم يُحسم بعد مصير منصب مدير المخابرات في الجيش، الذي يشغله الآن العميد إدمون فاضل، ومن المفترض أن تنتهي مدّة التمديد الأخير له بعد نحو شهر. «بعد بكّير، بعد في شهر»، يقول الجنرال.
وعن الملفّ الرئاسي، يرفض قهوجي ما يتردّد من كلام عن أنه «عاد من أميركا رئيساً للجمهورية مع وقف التنفيذ»، ويؤكّد أنه «لم يتم التطرّق إلى أي حديث من هذا النوع، لا من قِبلي ولا من قِبل الأميركيين. كل ما تمّ التأكيد عليه هو ضرورة انتخاب رئيس للجمهورية وملء الفراغ في سدّة الرئاسة».